في تلك الليلة الباردة، حيث موسكو تُغطيها ثلوج كثيفة أشبه بالكفن الأبيض، وجد الطاغية بشار الأسد نفسه وحيداً في غرفة شاحبة، الجدران صامتة، لكنها شاهدة على رجل لم يعد سيداً، بل لاجئاً يحمل خطايا وطنٍ بأكمله. كانت المدينة التي لطالما وصفها بأنها حليفة، قاسية في استقبالها له، صقيعها لم يرحم جسده الواهن، ولم تمنحه ظلالها سوى مزيدٍ من العزلة.

جلس على كرسي خشبي، أمام نافذة تطل على شوارع موسكو المغطاة بالثلج، كان الظلام يبتلع كل شيء، لكنه لم يكن كافياً ليبتلع صخب الماضي؛ لأول مرة منذ عقود، لم يكن هناك من يمدحه أو يُبرر جرائمه، كانت الغرفة عارية، إلا من صوت أنفاسه الثقيلة وأفكاره التي بدأت تطفو بوضوح مرعب.

في ركن الغرفة، طاولة صغيرة وُضعت عليها شتلات قمار مهملة. لعبة الروليت، التي أضاعت كثيرين في دوامة الرهان، كانت الآن رمزاً لحياته كلها، أدرك فجأة أن حكمه لم يكن سوى رهان خاسر. لسنوات، راهن على الدم، على الخوف، وعلى بقاء العرش مهما كان الثمن. لكنه الآن، في منفاه البارد، لم يكن لديه شيء ليبرره. العرش ذهب، الدماء جفت، والشعارات انهارت. لم يبقَ سوى الرجل الذي باع روحه لكل شيء، وخرج بلا شيء.

نظر إلى أسماء الخرساء شريكة الدم، زوجته التي رافقته في كل معاركه؛ كانت تجلس على الأريكة، صامتة، بوجه شاحب لا يعكس شيئاً سوى الفراغ. هل كان يرى فيها شريكة الحياة؟ أم شريكة الخراب؟ كان يدرك أنها حملت نفس العبء، وإن لم تقف أمام البنادق، فقد حملت السكين في الظل. نظراتها إليه لم تعد نظرات زوجة، بل نظرات شخص غريب، كأنهما مجرد بقايا تحالف انتهى برحيل العرش.

أما أبناؤه، الذين اعتاد أن يراهم كامتداد لحكمه، كانوا الآن مجرد أرواح صغيرة خائفة مرعوبة، كانت وجوههم تعكس مزيجاً من البراءة التي شوهتها حياة القصور وحكايات الطغيان التي بدأت تتسلل إليهم، هل يحق له أن ينظر إليهم كأب، وهو الذي حرم ملايين الآباء من أطفالهم؟

تلك الطاولة، وتلك الأسرة التي تجلس في صمت، كانت أشبه بمشهد ساخر من حياة قاسية؛ لعبة قمار عائلية خاسرة، حيث الجميع يدفع الثمن.

على الجانب الآخر من الغرفة، ارتفعت مرآة كبيرة، عاكسة صورة رجل عجوز يحمل كل أثقال السنين على وجهه. كان يحاول تجنب النظر إليها، لكنه لم يستطع. كلما تجرأ، رأى فيها صوراً من الماضي: وجوه الأطفال الذين قتلهم، مدن أبادها، وصرخات أناس لم يكن لهم ذنب سوى أنهم حلموا بوطن حر.

بدأت الأسئلة تهاجمه بلا هوادة. هل كان كل هذا الدمار يستحق العرش؟ هل كان يمكن أن يكون أباً أفضل، زوجاً أفضل، أو حتى إنساناً أفضل؟ كان يعرف الإجابة، لكنها كانت ثقيلة كالجدران التي تحاصره.

الليل في موسكو طويل، لكنه كان أطول عليه. الصقيع الذي يحيط به في الخارج كان أقل برودة من داخله. أدرك أنه لم يعد أمامه سوى الصمت. في هذه الليلة، علم بشار الأسد أن المنفى لم يكن مجرد مكان، بل حالة أبدية. موسكو الباردة لم تُسلمه النجاة، بل منحته مرآة ليواجه الحقيقة التي تهرب منها دائماً: الطغاة يمكن أن يهربوا من أوطانهم، لكنهم أبداً لن يهربوا من أرواحهم المشوهة.