لطالما كان للكرد دورٌ محوريٌّ في تأسيس وبناء دولة سوريا، منذ حوالى قرن كامل، حيث ساهموا عبر العصور في حماية البلاد وتثبيت ركائزها الاجتماعية والسياسية؛ إذ شكّلوا رمزًا للشجاعة والصمود في وجه المحتلين، وتميزت مقاومتهم بمواقف وطنية تجاوزت حدود الانتماءات العرقية، ما يؤكد أنَّ الكرد جزءٌ لا يتجزأ من نسيج الوطن السوري - رغم حقوقهم الجغرافية والتاريخية فوق ترابهم - وذلك منذ لحظة تأسيس سوريا الحديثة التي تضم جزءاً من خريطة كردستان. إلا أنَّ تغييب هذا الدور من صفحات التاريخ الرسمية يثير تساؤلات عديدة حول الدوافع الكامنة خلف هذا الإقصاء المتعمد، وكان وراءها رواد الفكر العنصري الذين أرسوا ثقافة إبادة الكرد، عبر تذويبهم في البوتقة العامة، وهو ما تم عبر نسيان أكثر من ثلاثة ملايين كردي لغتهم الأم، وهم في مختلف المدن السورية، خارج المناطق الكردية!

معركة بياندور وبدايات النضال
يبرز تاريخ الكرد في مقاومة الاستعمار الفرنسي كأحد أبهى فصول النضال الوطني السوري. في معركة بياندور عام 1923، حشد الكرد ثلاثة آلاف مقاتل(1) تصدوا بشجاعة للقوات الفرنسية التي حاولت فرض سيطرتها على المنطقة. هذه المعركة لم تكن مجرد مواجهة عسكرية عابرة، بل كانت انعكاسًا لرؤية الكرد الراسخة في الدفاع عن استقلال سوريا ووحدتها(2).

من أبرز الرموز في هذه المرحلة كان إبراهيم هنانو (1886-1935)، الذي قاد حركة مقاومة منظمة في شمال سوريا، متحديًا الاستعمار الفرنسي رغم قلة الموارد. كما لا يمكن إغفال دور يوسف العظمة (1884-1920)، الذي قاد معركة ميسلون واستشهد بشجاعة دفاعًا عن سيادة البلاد.

عفرين: شرارة المقاومة الأولى
في منطقة عفرين، كان محو إيبو شاشو مع المئات من المناضلين من وجوه وشخصيات كردية منهم من آل ديكو (1875-؟) أول من أطلق النار على القوات الفرنسية، ما جعل من عفرين رمزًا للتحدي والمقاومة. امتدت أدوار الكرد لتشمل مناطق أخرى من سوريا، حيث قدم أحمد البارافي(3)، ابن حي الكرد الدمشقي، نموذجًا فريدًا في التصدي للاحتلال، عبر مئات الشباب الكردي المتحمس الذين وقفوا ضد الاحتلال. كما تجسدت الروح الكردية الرافضة للاحتلال في شخصية سليمان الحلبي (1777-1800)، الذي اغتال كليبر قائد الحملة الفرنسية، ليؤكد أن الكرد كانوا دومًا في طليعة النضال الوطني.

قبل حوالى مئة سنة محاولات رفض مشاريع التقسيم
لم يقتصر نضال الكرد(4) على العمل العسكري، بل شمل رفضهم مشاريع التقسيم والتجزئة التي حاولت بعض الدول فرضها، ولا سيما فرنسا، وذلك في أربعينيات القرن الماضي، إذ كان الكرد أول من تمسكوا بوحدة وطنهم سوريا، رافضين الانجرار خلف محاولات، وإن بات شباب اليوم، وبعد هيمنة الفكر القوموي العروبوي، ونتيجة الغبن العنصري الذي لحق بالكرد: جيلاً بعد جيل، يسجلون ملاحظاتهم على جدودهم ممن سميوا بالوطنيين، وكان ذلك قبل إعلان الدويلات الخمس، رغم وجود شخصيات كردية، من مثقفين ووجهاء عشائر كان لهم رأي آخر، وقدموا لائحة مطالب تكاد تشبه مطالب اليوم. هذه المواقف أظهرت أنَّ الكرد يمتلكون رؤية وطنية عميقة تضع مصلحة البلاد فوق كل اعتبار، مؤكدين أنَّ التنوع العرقي والديني هو أحد مصادر قوة سوريا، وليس نقطة ضعف، رغم ما لا أنساه، ولا ينساه كل كردي، ألا وهو أنَّ الكردي يعيش فوق ترابه، وأن مناطقه قد ألحقت بخريطة سوريا، لاعتبارات دولية عديدة، من دون أن ننسى أنَّ الكثير من النخب العربية في سوريا كانت تؤسس لإلغاء الآخر، وذلك منذ عشرينيَّات القرن الماضي، بعكس الكردي، وما أشبه تاريخ الأمس باليوم.

أول من كسر شوكة النظام
تعتبر انتفاضة 12 آذار (مارس) 2004 ضد نظام الأسد في المدن الكردية أحد أعمق وأقوى المحطات في تاريخ الكرد المعاصر. فقد اندلعت الاحتجاجات في أعقاب مباراة كرة قدم في مدينة القامشلي، لتتحول إلى انتفاضة عارمة في المدن الكردية، تعبيرًا عن رفض الكرد لسياسات النظام السوري القمعية والعنصرية تجاههم. كانت هذه الانتفاضة أحد أبرز مظاهر الرفض الشعبي لسياسات النظام، وكانت أول من كسرت شوكة هذا النظام الذي طالما تعامل مع الكرد بعنف وقمع.

في قلب هذه الانتفاضة، برز دور الشجاعة الوطنية، حيث خرج الكرد في مظاهرات حاشدة طالبوا فيها بحقوقهم وحريتهم. لم يكن النضال السياسي هو وحده الدافع لهذه الانتفاضة، بل كان السعي لتحطيم هيبة النظام، حيث قام المحتجون بتحطيم تماثيل الأسد، ما اعتبرته السلطات السورية تحديًا علنيًا لسلطتها. لكن رغم القمع العنيف الذي تعرضوا له، إلا أن الكرد لم يتراجعوا عن مطالبهم بالحقوق والمساواة، معلنين بذلك بداية مرحلة جديدة في نضالهم ضد الظلم والاستبداد.

الكرد في مواجهة الإرهاب: التضحيات المستمرة
في العصر الحديث، تجلت تضحيات الكرد في مواجهتهم لتنظيم داعش الإرهابي. معركة كوباني (عين العرب) عام 2014، كانت محطة فارقة في النضال الكردي، حيث خاضت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) معارك شرسة للدفاع عن المدينة ومنع سقوطها بيد التنظيم المتطرف. قدم الكرد في هذه المعركة آلاف الشهداء، وكانت مقاومتهم رمزًا عالميًا للشجاعة والصمود في وجه الإرهاب.

لم تتوقف مقاومة الكرد عند كوباني؛ فقد امتدت لتشمل الرقة ودير الزور ومنبج، حيث تحملوا العبء الأكبر في تحرير هذه المناطق من قبضة داعش. كانت هذه المعارك تجسيدًا لروح المسؤولية الوطنية التي يتحلى بها الكرد، حيث لم يدافعوا عن مناطقهم فقط، بل عن سوريا ككل.

لماذا يتم تغييب دور الكرد؟
رغم هذه التضحيات الكبيرة، يعاني الكرد من تغييب متعمد لدورهم في السرديات التاريخية الرسمية. هذا الإقصاء ليس مجرد خطأ عابر، بل هو جزء من سياسات ممنهجة تهدف إلى طمس الهوية الكردية وتقليل مساهماتهم في بناء الوطن. إنَّ إنكار هذا الدور لا يُلحق الظلم بالكرد فقط، بل يضعف الروح الوطنية الجامعة التي تحتاجها سوريا في مواجهة تحدياتها الحالية والمستقبلية.

دروس التاريخ ودعوات للمصالحة الوطنية
من مقاومة الاستعمار الفرنسي إلى مواجهة الإرهاب، أثبت الكرد أنهم ركيزة أساسية في بناء الدولة السورية وحمايتها. كانت دماؤهم التي امتزجت بدماء العرب والدروز والمسيحيين في ميسلون وبياندور دليلًا على أنَّ الوحدة الوطنية ليست مجرد شعار، بل واقع عاشه السوريون في لحظات الخطر الكبرى.

إلا أنَّ هذه التجارب التاريخية تحمل رسالة واضحة: لا يمكن بناء سوريا جديدة دون الاعتراف بكل مكوناتها واحترام حقوقها. الكرد، الذين دفعوا أثمانًا باهظة من أجل هذا الوطن، يستحقون مكانة تليق بتضحياتهم وإسهاماتهم.

بناء سوريا المستقبل: وطن يتسع للجميع
إنَّ تقدير دور الكرد لا يعني فقط إنصافهم تاريخيًا، بل يشكل أيضًا خطوة ضرورية نحو تحقيق مصالحة وطنية شاملة. سوريا المستقبل يجب أن تكون وطنًا يتسع للجميع، تُحترم فيه حقوق جميع مكوناتها دون تمييز أو إقصاء، ضمن وطن اسمه: الجمهورية السورية، وليس أفضل من النظام الفيدرالي، في نظري، جامعاً للسوريين، بعد كل هذه المحطات المريرة التي مررنا بها، إحقاقاً للحقوق وإنصافاً لكل من تجرع مرارة العهود المتباينة على امتداد قرن زمني كامل!

لقد أظهرت التجارب أن القوة الحقيقية لسوريا تكمن في وحدتها وتنوعها، وأن أي محاولة لتهميش أو إقصاء أي مكون لن تؤدي إلا إلى تفاقم الانقسامات وإضعاف البلاد. وتظل تضحيات الكرد شاهدًا حيًا على إخلاصهم لهذا الوطن. سواء في مواجهة الاستعمار الفرنسي أو في الحرب ضد داعش أو في الوقوف ضد سياسات البعث الاستبدادية - إذ كانوا أول من وقفوا سلمياً ضد سياسات البعث العنصري - فقد قدم الكرد نموذجًا فريدًا للشجاعة والإرادة. إنَّ الاعتراف بهذا الدور ليس مجرد واجب أخلاقي، بل هو ضرورة وطنية لبناء سوريا التي تحترم حقوق جميع أبنائها وتكرّم تضحياتهم.

إنَّ تاريخ الكرد في سوريا، بما يحمله من دروس وعبر، يدعو جميع المعنيين إلى إعادة النظر في السرديات الرسمية المزورة التي أغفلت دورهم. هذا الدور، الذي يشكل جزءًا أساسيًا من الهوية الوطنية السورية، يجب أن يكون مصدر إلهام للأجيال القادمة في مسيرة بناء وطن يقوم على أسس العدالة والمساواة والاعتراف بالتنوع.


راجع:
1. أ. سيامند حاجو، مقال بعنوان "موقعة بياندور انتفاضة أم مؤامرة؟"، 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2022
2. أدهم الجندي، "تاريخ الثورات السورية" (من ذاكرة صاحب المقال)، والكتاب كان في طبعة قديمة قرأتها في مكتبة المركز الثقافي في قامشلي في ثمانينيات القرن الماضي
3. المصدر السابق
4. متابعات من الذاكرة من خلال قراءات في الشبكة العنكبوتية بسبب بعد أرشيفي الشخصي عني، إذ كنت أعددت آلاف البطاقات في النقد والبحث والتاريخ...