في البدء كانت (الكلمة)، وهي ملخص لكل ما يحدث في حياتنا -عظيمًا كان أو هيِّنا-، وهي فلسفة الوجود والمكان والزمان. فالحياة ومَن فيها كلمة، والموقف كلمة، وبعضها أشد تأثيرًا من وقْعِ الحسام المهنَّد، وهي (زلزلة الظالم، وحصن الحرية) و(الكلمة نور ... وبعض الكلمات قبور)؛ كما يقول الشاعر المصري عبد الرحمن الشرقاوي.

في مهرجان (كلاويز) في دورته السابعة والعشرين، الذي يُقام سنويًّا في السليمانية، أصر على الاستمرار والثبات بحضوره اللامع، ناصرًا للكلمة وحرية التعبير؛ فكان الشعر كلمة، والنقد كلمة، والبحث كلمة، والفن كلمة، حيث تناغموا معًا بالكلمة لتثوير العقل؛ من أجل حرية الكلمة وجمالها وهيبتها. كان صوتاً للحرية ومناصرًا للإنسان.

واسم المهرجان (كلاويز) بالكردي، يعني (نجم سُهيْل) بالعربي، وهو ثاني نجم في الكوكب، وأحد ألمع نجوم السماء، وهي تعني (الانكسار للشدة والانفتاح نحو الوفرة)، وأهميتها في التراث والموروث العربي القديم؛ باعتبارها هاديًا ودليلاً، وتعلُّم فراسة الاستدلال بالنجوم ومعرفة الفصول، وبوْصلة للملاحة، مثلما كان نجم الأساطير وملهم الأدباء والشعراء. وقال عنه أبو العلاء المعري:

وسُهيْلٌ كوجْنةِ الحُبِّ في اللوْنِ وقَلبٌ للمُحِبِّ في الخَفَقَانِ

كان مهرجان (كلاويز) بحق لامعًا كنجم سهيل؛ في نوره وسطوعه المبهر، ولم يكن صوتًا تقليديًّا بشعره وبحوثه وأفكاره؛ بل كان مُحدثًا برؤيته وسلوكه الثقافي، ومتناسباً مع روح العصر، وفيلسوفًا في حكمته الإنسانية، ومُناهضًا للجهل والعنصرية، ورمزًا للمحبة والحرية؛ لأنه متعددُ الألوان والرؤى.

كان محتوى المهرجان مُنفتحًا على الآخر، ومتلاقحًا مع ثقافات الشعوب بمحبة، من خلال: التراث الفني، والأغنية والموسيقى، والكتاب واللوحة؛ حيث كان ذلك ربيعًا أخضرَ للمهرجان. وكان الفنان المبدع: محمد فتاح، مدير عام الثقافة والفنون في السليمانية؛ المهندس الفني للمهرجان، حيث أضفى على ختام المهرجان في جلسة غير مقررّة جوًّا من البهجة والسرور، من خلال موهبة الغناء الكردي والعربي، وشاركه الزميل: محمد إسماعيل من صحيفة الصباح، في غناء لون المحمداوي الجنوبي.

لقد رشَّ الفن الكردي المتنوع - بفعاليته - ورود السعادة على المشاركين، وهو يخفف وطء زحمة الموضوعات الثقافية والفكرية التي ازدحمت جلساته الصباحية والمسائية بها، فعطَّر أجواء المؤتمر برائحة المحبة والسعادة؛ لنكتشف روعةَ وجمالَ الموسيقى الكردية، وأصوات الفنانين الجبلية القوية الجاذبة للنفوس، التي أتعبتها الفوضى والحروب، وسَطَت عليها السياسة القبيحة.

كم سُررتُ بأجواء المهرجان الطبيعية! وجمال العلاقات الإنسانية، وبساطة السلوكيات التي أنتجت هذا المهرجان، ودروسه الجميلة المفيدة. لذلك لن أتحدث عن تفاصيل الجلسات الفكرية؛ فهو أمرٌ أتركه للمقالات النقدية، والتقارير الصحفية الطويلة؛ لأن هذا العامود الصحفي هدفه كشف ما بين سطور المهرجان للقارئ.

مرة كتبت مناصراً الكرد: لا أدرى إن كان الكُرد في العراق من قبائل الهيملايا أو من قاطني المريخ؟ فالمرء يندهش عندما يرى هذا "الإسهال" الإعلامي ضد إخوتنا الكُرد، والتحريض عليهم بطريقة عنصرية مُخجلة؛ حيث تلك البيئة الملوثة بالتحريض والكراهية ضدهم؛ حتى صرت أنا شخصيًّا أخشى أن يتحول هذا التحريض إلى منهج اجتماعي وسياسي! فالكُرد لهم قضيتهم، ومطالبهم في العيش المشترك، ولهم حق الحياة والوجود.

عندما عشنا أيامًا قليلة في المهرجان؛ اكتشفنا الكثير من السلوكيات المتحضرة التي تقود إلى أفكار إيجابية واضحة - لا لَبس فيها -، وهي أننا أمام شعبٍ منفتح يُحب الحياة، وليس فيه عقد الماضي وترسُّباته، ولا يأس في حاضره -رغم ظلم الحصار المادي-. شعبٌ بسيطٌ ومتواضع، ومتحضر في سلوكه مع الآخر، طيِّبٌ ونبيل وألمعي في التفكير والرؤى.

أحاطتنا الدهشة لما دخلنا قاعة المؤتمر يوم الافتتاح، فليس ثمة مسؤول يحتل المقاعد الأمامية، ولا رؤساء لأحزاب أو مؤسسات -تلك التي تعودنا على رؤيتها في مؤتمراتنا-؛ حيث الأعداد الكبيرة من حُراس المسؤولين، تزيد على أعداد الجمهور!

لا تجد مَن يزعجك بطنطنات العنتريات العربية، ولا مَن يُكلِّمك بصوتٍ عالٍ، ولا تجد مَن يأمرك أن تجلس هنا أو هناك؛ فالجميع سواسية (كأسنان المشط) في القاعة؛ حيث بساطة المسؤول، والذوق الراقي في التعامل والاستقبال للجميع، سواء أكان المدعوّ يحمل نياشين البطولة على صدره أو يلبس ملابس الفقراء!

كم كنت سعيداً بهذا الجو الإنساني! الذي يَبهرك، ويرفع طاقتَك الإيجابيةَ، حيث تجد أناقة المؤتمر بموضوعاته وفنونه، وجمال نسائه وملابسهن الكردية المطرَّزة بالألوان البراقة والصارخة، والأحزمة والسلاسل الذهبية، وتطريزاتها المتنوعة، وأقمشته المغطاة بالمنمنمات والحراشف المعدنية البراقة، والقطع النقدية من الفضة وحُليِّ الذهب التي تسر الناظرين. وكذلك تجد معارض الكتب ولوحات التشكيل والأعمال اليدوية التي عكست خزائن الثقافة الكردية.

من الآخر، المؤتمر كان نجمًا لامعًا في سماء الثقافة والفكر، كان نابعًا من روح وتراث مدينة السليمانية، صنعه مهَرَةٌ من أصحاب الفكر النيِّر، وأصحاب رسالة الحرية والسلام، والذوق الرفيع؛ فأجادوا في إنتاج الجمال الثقافي والإنساني، تتقدمهم الزميلة د. إبتسام إسماعيل قادر رئيسة المهرجان، بألقها الثقافي والأكاديمي، وقدرتها على ضبط إيقاع المهرجان بمساراته المختلفة والمتنوعة، وعلاقاتها العربية والدولية، ومعها فريقٌ جميل يتمتع بأرقى سلوكٍ تنظيمي، وتمدُّن في العلاقات العامة.

من جانبي، غادرتُ المكان بعد نهاية المؤتمر، ثم كتبتُ رسالة شكر إلى رئيسة المهرجان على الدعوة والاستضافة، وقلت في آخر الرسالة: دامت أيامكم كلها نجاحات ومسرات دفاعًا عن هيْبة الكلمة. ما أجمل (نجم سهيل) بلمعانه الجميل! حيث أضاءت الكلمة في هذا المهرجان عتمة التائهين في عصر التفاهة والتافهين.