تنام في لبنان على طلب المدعي العام التمييزي غسان عويدات الإدعاء على حاكم المصرف المركزي (منذ عام 1993) رياض سلامة، بجرم اختلاس وتبييض أموال. وتصحو على خبر تنحّي النائب العام الاستئنافي زياد أبو حيدر عن الملف، إنما من بعد إحالته الى النيابة العامة المالية بدلاً من إحالته الى قاضي التحقيق الأولي، الأمر الذي يعطّل ملاحقة سلامة.

ثم تعود قبل أن تنام مجدداً فتشاهد سلامة نفسه في مقابلة متلفزة مسجلة معه يشدّد فيها على مسؤولية الدولة اللبنانية عن فجوة 65 مليار دولار في ميزانية المصرف المركزي، ويحمّل فيها الوزر الأكبر عن المسار الكارثي الذي سارت له الأمور لقرار رئيس الحكومة السابق حسان دياب تعليق تسديد سندات اليوروبوند (سندات دين خارجية بالعملة الصعبة تلجأ اليها الحكومات لتمويل مشاريعها).

بالتزامن مع بث المقابلة، تجري، بمؤثرات تلفزية تشويقية، مداهمة منزل عائد لسلامة، معلوم سلفاً أنه غير مقيم فيه، ليصحو «الزلمي» في اليوم التالي ويتابع عمله كالمعتاد، على رأس المصرف المركزي. «ديكتاتور مالي» مطارد من ضابطة عدلية!

مداهمة جهاز أمن الدولة لمنزل سلامة الذي يبدو أنه لا يرتاده منذ مدة أتت بطلب من مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون التي تلاحق سلامة منذ أشهر متواصلة. وكانت وراء احتجاز شقيقه رجا لمدة شهر قبل أن يُطلق الأخير بموجب كفالة.

وهنا أيضاً، يوماً تنام على خبر ادعاء غادة عون على مدير عام قوى الأمن الداخلي لأنه لم يحضر لها سلامة، ويوماً تصحو على إحالة عون نفسها الى المجلس التأديبي، ونية في مجلس القضاء الأعلى لإخراجها من القضاء لا نعرف كيف.

ثم تنام أو تصحو، لا فرق، على خبر جديد، عنوانه هذه المرة مشاركة غادة عون نفسها في مداهمة متجددة لمنزل سلامة، وهذه المرة مع خبير فتح الخزنات الموجودة في هذا المنزل، وأخذ الأوراق التي فيها للتحقيق بها!

مناخ «الطوم آند جيري» هذا بين حاكم المصرف المركزي وبين المدعين العامين لا يبدو له من آخر، وهو مناخ لم يُفسد بعد لرياض سلامة حاكميته المالية. يُطارد الرجل فيما التعاميم التي يُصدرها مُلزمة، ويحدّد من خلالها السياسة النقدية للدولة، ولا يبدو أنه يخيفه تقاطعٌ بين رئيس جمهورية ورئيس حكومة على العمل على عزله، ما لم يجر الاتفاق على بديل عنه، ولا يبدو أن هذا البديل متوفر، خاصة إذا ازدادت ملابسات الاستحقاق الرئاسي الموشك تعقيداً. جزء من مناخ «الطوم آند جيري» بين رياض سلامة ومتعقبيه يرتبط أساساً بالاستحقاق الرئاسي.

يحدث كل هذا، في وقت لا تستمع فيه الى حديث سياسي في البلد إلا وتتكرر فيه بشكل متواصل الدعوة الى «استقلالية القضاء»، حتى استحالت هذه العبارة مانترا أو تعويذة.

بالتوازي، التحقيق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت وتدمير جزء كبير من العاصمة هو عملياً متوقف منذ سبعة أشهر، إذ حوصر القاضي طارق البيطار الموكل بهذا الملف بدعاوى كف اليد والمخاصمة، وتقترب الذكرى الثانية على التفجير الإجرامي الكبير بحق العاصمة وأهلها من دون قرار ظني، في وقت صعّد فيه الموالون لرئيس الجمهورية ميشال عون حملتهم لإطلاق مدير عام الجمارك بدري ضاهر، ومن سبقه لذات المنصب شفيق مرعي، ويجري اعتبارهما من فئة «الرهائن الأسرى» على لسان النواب العونيين، بما أن احتجازهم على ذمة تحقيق لم يبصر بعد قراره الظني النور قد طال، وبما أن سواهم من المطلوب التحقيق معهم وإحضارهم ضربوا عرض الحائط بكل ما أصدرت بحقهم من مذكرات. هنا أيضاً تتصل المكابدة القضائية بأجواء اقتراب الاستحقاق الرئاسي، مع أنها تكشف مشكلة أعمق بكثير من هذا الاستحقاق. لا سيما وأن التحقيق العدلي لم يعلق فقط بتوالي دعوات كف اليد والمخاصمة، انما بتداعيات حادثة الطيونة الدامية أواخر العام الماضي

من جهة، الكر والفر في موضوع حاكم مصرف لبنان. ومن جهة ثانية، العرقلة الواقع فيها التحقيق العدلي في موضوع تفجير المرفأ – وقد جدد بعض المطلوبين للتحقيق الاحتفاظ بالحصانة النيابية، بل وانتخبوا في اللجان البرلمانية بأصوات أعلى بكثير مما نالها نبيه بري لحظة اعادة انتخابه لرئاسة البرلمان مؤخراً، أو نجيب ميقاتي عند اعادة تكليفه بتشكيل حكومة. أما المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتي حكمت بالسجن المؤبد على حسن مرعي وحسين عنيسي من «حزب الله»، فقد حلّ الخبر هامشياً في ثنايا النشرات الإخبارية، ومن دون أن يتوجب على الحكومة التي يندرج الالتزام بالمحكمة في بيانها الوزاري أي إجراء ولو رمزي على هذا الصعيد.

يعطي كل ذلك صورة قاتمة عن مآل الدولة في نهايات العهد الرئاسي الرابع بعد اتفاق الطائف. دولة تنام فيها وتصحو على حروب كر وفر بين مكوناتها، لكنها حروب تحوي على مقدار كبير من المؤثرات التشويقية ومن إيهام الذات والآخرين. فالواضح أنه في هذا البلد ليس هناك قوة بمقدارها حمل المصارف الخاصة على التعرف ولو على حصة من مسؤوليتها الجسيمة في عملية تبديد أموال الناس، وليس هناك قوة بمقدارها حمل «حزب الله» على العدول عن سياسات التغلب وربط البلد بإيران، وليس هناك من قوة بمقدارها أيضاً وأيضاً شق الطريق الى حيث النقاش الحقيقي، الواقعي، الصريح، حول تردي أحوال التعاقد الاجتماعي كما السياسي بين اللبنانيين، بشكل يجعل المشكلة نظامية ومجتمعية وكيانية في آن.

بدلاً من ذلك يحصل أن أكثرية النواب المسيحيين في البرلمان، من عونيين وقواتيين وخلافه، لم يجدوا أي سني يسمونه لرئاسة مجلس الوزراء. هذا بعد أن لم يجد أكثرية النواب المسيحيين شيعيا يقترعون له لرئاسة مجلس النواب.

مع ملاحظة الاختلاف بين الحالتين رغم التقارب في الشكل وفي الدلالة الطائفية. ففي حالة رئاسة الحكومة يمكن ان تسمي أي مواطن سني لتقلد المنصب، في حين يحصر الأمر في رئاسة النواب بتسمية شيعي من ضمن أعضاء مجلس النواب. وكل هذا عشية انتخابات رئاسية ليس المعروف فيها كيف تطبق مقولة «الأقوى في طائفته يتولى المنصب الأرأس الذي يعود لها أو يولي عليه» وليس المعروف في المقابل كيف يمكن الإفلات من هكذا مقولة.

فهل يمكن تفادي «المعاملة بالمثل» عندما يحل موعد الاستحقاق الرئاسي الذي يعاني أساساً، على ما أظهرته التجربة، من مشكلة مريرة في تأمين النصاب المطلوب لتجويز هذا الانتخاب، الى حد المرور بفراغ رئاسي لنصف العام سنة 2008 ولعامين ونصف، لكن أساساً، ونحن في ختام عهد الرئيس ميشال عون، فالخيارات قد لا تكون محصورة بإما انتخاب رئيس جديد وإما فراغ القصر. الخيارات ربما كان يمكن استيحاؤها أكثر من حركة «طوم آند جيري» بين غادة عون ورياض سلامة.