تمر أوروبا بواحدة من أسوأ أزمات الطاقة التي تواجهها, بسبب ارتفاع أسعار الغاز مع نقص الإمدادات من روسيا, التي تشن حرباً على أوكرانيا مما أدى لفرض عقوبات من دول الاتحاد الاوروبي عليها, حيث يتجهون إلى وقف الاعتماد على غاز ونفط روسيا خلال سنوات قليلة جداً, بينما يحاولون في الوقت الراهن خفض الاعتماد على الطاقة من روسيا ألى أقصى حد ممكن وذلك لإرهاقها اقتصادياً, مما يؤدي لوقف هذه الحرب.

لكن بالمقابل ظهر مع هذه الأزمة ضعف خططهم لأمن إمدادات الطاقة, وسرعة تحولهم نحو الطاقة المتجددة دون وضع مثل هذا السيناريو الذي يعيشونه حالياً على قائمة الاحتمالات, رغم أن المؤشرات لمثل هذه الحرب أو على الأقل حدوث تصعيد من أي درجة كانت واضح منذ ضم روسيا لجزيرة القرم عام 2014 من أوكرانيا معتبرةً أنها جزء منها وعادت إليها.

لكن الملفت في طرق معالجة أزمة الطاقة أوروبياً, جملة الحلول التي بدأت بعض الدول تنفيذها استعداداً لموسم الشتاء من الوقت الحالي, حيث باشرت فرنسا العمل على إجراءات تقول إنها ستخفض استهلاك الطاقة بنسبة جيدة, إلا أن ما اقترحه رئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز يعد هو الأميز بين كل الحلول التي طرحت باوروبا, حيث نصح وزراء حكومته بعدم وضع ربطات العنق حتى لا يحتاجون لدرجة برودة منخفضة من التكييف, وبدأ بنفسه بهذا المقترح وحث الشركات على الأخذ بهذه المبادرة وتعميمها على جميع الموظفين، فالحقيقة إن الوصول لمثل هذه المقترحات يدلل على أن الأسوأ بأزمة الطاقة بأوروبا لم يأتِ بعد، فهم يستعدون لموسم الشتاء للحفاظ على أكبر احتياطي ممكن من الغاز, فمشكلة الحرب لا يرون أن حلها سيكون قريباً, لذا فقد بدأوا الاستعداد للأسوأ, واتجهوا للقارة الإفريقية ليجدوا بديلاً عن روسيا بمد خطوط أنابيب نقل غاز من نيجيريا والجزائر وغيرهما, مما أوضح أن دراساتهم لمزيج الطاقة وما اتخذ من قرارات سابقاً بهذا الشأن لم تكن صحيحة, لأنها سقطت عند أول اختبار حقيقي بهذه الحرب لأن روسيا تزودهم بحوالي 40 بالمائة من احتياجاتهم من الغاز, ونسبة مقاربة من النفط, فخفضهم للاستثمار بالوقود الأحفوري المبالغ فيه يدفعون ثمنه غالياً حالياً, بينما إذا ما استمر نمو الطلب على الطاقة بنفس الوتيرة الحالية فإن الأسعار الحالية ستكون رخيصة مقارنة بما سيحدث مستقبلاً نتيجة تجاوز الطلب للعرض من الطاقة الإنتاجية عالمياً بما فيها الاحتياطي الإنتاجي.

فإذا كانت أوروبا تخطط لمستقبل الطاقة فيها بدقة متناهية, فلماذا لم يتوقعوا حدوث هذه الأزمة فحتى لو كانوا يشترون أغلب احتياجاتهم من روسيا على مبدأ تعزيز التبادل والشراكة التجارية مع دولة جارة لهم مما يخفض من التكلفة, فهذا ليس كافياً لضمان هذه الإمدادات ما لم يتم تعزيزها بالمصالح المشتركة بينهما, إلا أن أوروبا بما أنها أكبر مكون في حلف الناتو لم تعر ذلك أي اهتمام, وتوسع الحلف بضم دول جديدة له ووصل لحدود روسيا وكان آخرها محاولة ضم أوكرانيا التي اعتبرتها موسكو تهديداً وجودياً وتحركت عسكرياً لمنع قيام أو تنفيذ هذه الخطوة, فكيف لأوروبا أن تستفز موسكو وتضيق عليها عسكرياً وأمنياً بالوصول لحدودها ثم لا تتوقع أن يكون رد موسكو عسكرياً واقتصادياً, وهي التي يمكن أن تشل اقتصاد أورربا, فآخر إحصاء لاقتصاد ألمانيا أكبر دولة اقتصادياً أوروبياً أظهر نمواً بمقدار صفر بينما كان هناك نمو طفيف بدول أوروبا إنما التضخم بأعلى مستوياته منذ أربعة عقود إذ كان من الأجدى أن يحافظوا على أمن اقتصادهم ومنع قيام نزاعات عسكرية مع وريثة الاتحاد السوفيتي وإحدى أقوى دول العالم عسكرياً من خلال اتفاقيات تخدم كل الأطراف وتلبي مطالبهم المتوازنة بما يحقق هذه الاتفاقيات, لأن ما يحدث في أوروبا يمثل خطراً عالمياً بدأت بعض بوادره تظهر كأزمة الغذاء التي تهدد الدول الفقيرة, وتعقيدات بسلاسل الإمداد, وعودة لرفع أسعار الفائدة من أميركا والبنك المركزي الأوروبي لكبح التضخم لكن لذلك ثمن بحدوث ركود تقني محتمل أو تباطؤ قوي بالنمو الاقتصادي لديهم.

عدم ارتداء ربطات العنق أو إقفال أبواب المحلات المكيفة وغيرها من المقترحات, ليست إلا تعبيراً عن الصدمة بعدم وجود دراسات واستعدادات مناسبة لأي أزمة طاقة كبرى, ورغم أنه ستطرح العديد من الدول الأوروبية استراتيجياتها لمواجهة أزمة الطاقة والتدابير المناسبة لها قريباً, لكن ذلك لن يحل الأزمة وقد لا يخفض الأسعار فخشية بعض الاقتصاديين بالغرب أن يكون التضخم الضمني دخل لبعض السلع, بحيث إنها لن تعود لأسعارها السابقة إنما قد لا ترتفع أو من الممكن أن تنخفض قليلاًً, هذا بأقل الاحتمالات, بينما الغالبية متفقون أن الأسعار مازالت بطريقها لتحقيق مستويات أعلى خلال هذا العام ولسنوات عديدة مستقبلاً.