أية رهانات على الحوار الوطني في تحسين البيئة العامة وضخّ دماء جديدة بالحياة السياسية الراكدة تستحق أن تأخذ وقتها قبل إصدار الأحكام. التعجل بإصدار الأحكام المسبقة غير التنبيه إلى مواطن الخطر، التي تتهدد الفرصة السانحة..الأول، فعل سلبي.. والثاني، عمل إيجابي.

إذا ما أردنا للحوار الوطني أن يساعد على بناء تماسك وطني بأوقات حرجة يتغير فيه العالم ويضطرب الإقليم فلا بد أن تكون هناك مصارحة بالمأزق الذي هو فيه الآن.

المصارحة مسألة رأي عام يتابع من بعيد دون أن يبدي حماساً كبيراً للحوار وما قد يصل إليه من مخرجات. اكتساب ثقة الرأي العام لا تتأسس على كلام في الهواء، أو وعود لا تتحقق، بقدر ما يرى أمامه من إجراءات تحسن مستويات معيشته وتطمئنه على مستقبله وتفسح أمامه المجال للتنفس السياسي الحر تتأكد ثقته أننا على الطريق الصحيح.

كان من أبرز دواعي القبول الواسع بالدعوة الرئاسية للحوار، رغم أية تحفظات من هنا أو هناك، أنها تفتح الأبواب الموصدة وتساعد على بناء توافقات وطنية تحتاج إليها مصر لتجاوز أية أزمات تعترض مستقبلها ومصيرها.

يتبدى- هنا- مأزق الحوار قبل أن يبدأ جدول أعماله الفعلي.

المأزق يلخصه: تباطؤ ملحوظ فيما هو سياسي وتسرّع مفرط فيما هو اقتصادي.

جرت إفراجات لها قيمتها عن أعداد من مسجوني الرأي، الذين لم يحرضوا على عنف أو انخرطوا في إرهاب.

عند أية إفراجات ولو محدودة يرتفع منسوب الحماس للحوار والانخراط فيه. وعند أي تباطؤ يرتفع المنسوب العكسي وتتردد في بعض أوساط المعارضة دعوات الانسحاب منه.

لا أحد عاقل في مصر مستعد أن يتحمل مسؤولية إفشال الحوار الوطني، فالعواقب سوف تكون وخيمة والبلد سوف يدخل في مرحلة انكشاف سياسي واقتصادي واستراتيجي، فيما هو لا يحتمل أية اضطرابات اجتماعية غير مستبعدة.

المسؤولية مشتركة بين الحكم والمعارضة في إنجاح الحوار الوطني والوصول بالبلد إلى بر الأمان، أو أن يكون أكثر ثقة في نفسه وفي قدرته على مواجهة تحدياته الصعبة.

حسم ملف محبوسي الرأي دون إبطاء مسألة أساسية لضخ دماء الثقة في شرايين الحوار وإضفاء الصدقية عليه.

لن يصدق أحد في العالم أن هناك حواراً وطنياً جدياً في مصر يستهدف نقلها إلى حال جديد بمحض عبارات إنشائية، فملف الحريات وحقوق الإنسان متخم والحملات على نظام الحكم الحالي لا تتوقف في الميديا الغربية.

قد يقال إن الحوار لم يبدأ بعد، وأنه بالكاد انتهى من اجتماعاته الإجرائية، وهذا صحيح، لكن جوهر التفاهمات التي سبقته أكدت أن الإفراج على مسجوني الرأي مقدمة الحوار وليس الحوار نفسه. هذه نقطة مفصلية في أية مصارحة ضرورية تعمل على إنجاح الحوار الوطني.

عند الإعلان عن الحوار الوطني تردد على نطاق واسع داخل مراكز القرار وفي صالات التحرير باتساع العالم سؤال واحد: هل الأمر جاد أم أنه مجرد خدعة؟.. هكذا بالحرف.

الإجراءات وحدها قبل أي شيء آخر هي التي تغير مسار النظر الدولي، الذي أنهك البلد وأساء إلى صورته.

من مصلحة النظام الحالي، كما من مصلحة المعارضة والبلد كله، إنهاء ملف سجناء الرأي وتحسين البيئة العامة وفتح المجال العام.

على خلفية الملف الملغم شككت صحف دولية في جدارة مصر باستضافة قمة المناخ المرتقبة. هذا سبب إضافي للحسم بأسرع ما يمكن.

القضية هنا تحتاج إلى تدخل رئاسي بالحسم. هذا هو الوجه الأول لمأزق الحوار الوطني. الوجه الثاني أن الإجراءات الاقتصادية المتسارعة في وقت ضيق بذريعة مواجهة الأزمة تهز من ثقة الرأي العام في الحوار كله.

إذا فقد الحوار ثقة الرأي العام على تجاوز أزمته الاقتصادية الخانقة فإنه يخسر قضيته مسبقاً قبل أن يدخل إلى جدول أعماله. الناس تصدق الأسواق، تعاني وتئنّ من ارتفاعات الأسعار دون أن يتبدى أمامها أملاً في تجاوز الأزمة.

إذا لم يكن ممكناً لنخبة الاقتصاديين المصريين من مختلف المدارس الوطنية أن تناقش وتحاور وتنقد وتقترح حلولاً عملية تساعد البلد على تجاوز أزمته الاقتصادية، فإن الثقة العامة في الحوار كله قد تتقوّض.

أمام المأزق المزدوج للحوار الوطني، فإنه لا بد من حسم ملف محبوسي الرأي بأسرع ما يمكن والتوقف بنفس الوقت عن أية إجراءات اقتصادية جديدة بانتظار ما يسفر عنه من توافقات تساعد على مواجهة الأزمة وتخفيف الأعباء المعيشية عن المواطنين.