تمر أسواق الطاقة بالعالم بمرحلة غير مسبوقة بحجم التداخلات المؤثرة فيها، ولعل النفط تحديدًا هو أهم هذه السلع وأكثرها تعرضًا لهذه التأثيرات فالمخاوف من تباطؤ الاقتصاد العالمي تزداد يومًا بعد يوم وهناك تحذيرات من وقوع بعض الاقتصادات الكبرى بركود بالإضافة لمخاوف نقص الإمدادات بسبب العقوبات الغربية على روسيا بعد شنها حربًا على أوكرانيا إضافة لعامل بعيد المدى وهو عدم ضخ استثمارات بالقدر المناسب لكي تكون الطاقة الإنتاجية عالميًا أعلى من نمو الطلب وقبل أيام عقد اجتماع لتحالف أوبك بلس الذي تنتج الدول المنضوية تحته 44 مليون برميل نفط يوميًا أي ما يقارب نصف الإنتاج العالمي وذلك لبحث واقع السوق واحتياجاته من الطاقة للإبقاء على التوازن واستقرار الإمدادات فيه وكان هناك ترقب لما سيقر بالاجتماع؛ إذ أقرت زيادة يومية بمقدار 100 ألف برميل يوميًا في شهر سبتمبر وذلك بقصد التروي بزيادة الإنتاج للتعامل الأنسب مع الطاقة الاحتياطية الإنتاجية للدول الأعضاء بالتحالف حتى تستخدم بالشكل المناسب مستقبلاً للحفاظ على توازن السوق.
فالطاقة الاحتياطية الإنتاجية العالمية أصبحت محدودة ولا تمتلكها إلا دول قليلة جدًا حافظت على نظرتها المستقبلية الصحيحة لصناعة النفط وضخت استثمارات وما زالت لأنها قرأت الاحتياجات المستقبلية للطاقة ونمو الطلب عليها بموضوعية بعيدًا عن التكهنات من قبل كبار المستهلكين عالميًا الذين توجهوا للطاقة المتجددة بتسارع كبير مما أدى لاختلال مزيج الطاقة لديهم مع أول أزمة تواجههم وهي حرب روسيا على أوكرانيا؛ إذ اضطروا لمعاقبة موسكو لكي توقف الحرب ولعل أكبر ما يحاولون أن يضغطوا عليها فيه هو صادراتها لهم من النفط والغاز اللذين يغذيان خزينتها بأموال طائلة تساعدها على تغطية احتياجاتها من المال في عملياتها العسكرية؛ إذ تصل إيراداتها من النفط يوميًا إلى 883 مليون يورو رغم أن إنتاجها تراجع بسبب العقوبات نحو 9 في المئة فدوائر الغرب بما فيهم أمريكا يبحثون عن مخرج من أزمة الطاقة لديهم بمحاولات أهمها طلب زيادة إنتاج النفط من دول أوبك دون النظر لواقع السوق فهم يرغبون بخفض سريع للأسعار لتحقيق أهداف على المدى القصير منها خفض التضخم لديهم رغم أن أسبابه عديدة وليس النفط سببًا رئيسيًا فيها فالخلافات السياسية بين روسيا والغرب وكذلك أمريكا مع الصين لها دور كبير بارتفاع التضخم بالإضافة لمشاكل سلاسل الإمداد وأيضًا من المكاسب التي يبحثون عنها تقليل إيرادات روسيا من صادراتها النفطية وكذلك كسب معاركهم الانتخابية داخل دولهم بعد تدهور في شعبيتهم بشكل كبير جدًا بينما مشكلة الطاقة أعمق من ذلك بكثير وهم سبب رئيسي فيها من خلال ما سبق ذكره من خلافات سياسية ونزاعات عسكرية وكذلك سياسات المناخ التي اتبعوها وقللت معها قسريًا شركاتهم من الاستثمار في أعمال النفط والغاز عمومًا من الاستكشاف إلى الإنتاج بالإضافة لتراجع الطاقة التكريرية أيضًا لذات الأسباب المتعلقة باشتراطات مناخية.
لكن ما يلفت النظر ويستوجب التوقف عنده جزء مهم جدًا من بيان دول أوبك بلس باجتماعهم في الثالث من أغسطس الجاري؛ إذ جاء فيه أنهم «عبروا عن قلقهم، بشكل خاص، من أن عدم كفاية الاستثمارات، في قطاع التنقيب والإنتاج، سيؤثر في توافر الإمدادات الكافية إلى السوق، في الوقت المناسب، لتلبية الطلب المتزايد فيما بعد عام 2023م، وهذا يشمل الدول المنتجة للبترول غير الأعضاء في منظمة أوبك وغير المشاركة في اتفاق أوبك بلس، وبعض الدول الأعضاء في أوبك، وبعض الدول المشاركة في اتفاق أوبك بلس من خارج أوبك». فهذا التنبيه بل التحذير الشديد من مخاوف عدم تلبية الطاقة الإنتاجية بما فيها الاحتياطية للطلب الذي يتوقع أن يصل إلى 105 ملايين برميل بنهاية 2023 أو بداية العام الذي يليه يعني أنه سيكون هناك نقص بالإمدادات يستوجب حالة طوارئ عالمية ولن تكون الأسعار بالمستوى الحالي فقد تتجاوز 147 دولارًا وهو أعلى سعرًا تاريخيًا لخام برنت تم تسجيله عام 2008م وربما تتضاعف الأسعار عن المستوى الحالي الذي يقارب 100 دولار وعندها ستكون العواقب السلبية كبيرة على الاقتصاد العالمي وسيعقد سبل معالجة التضخم فالعالم كله مطالب بالتحرك لمواجهة هذا الخطر الكبير ففي الوقت الذي تقدر فيه الحاجة لاستثمار قرابة 600 مليار دولار سنويًا في النفط والغاز فإن الأرقام الحالية تصل لقرابة 360 مليارًا أي هناك نقص بنحو 40 في المئة عن المطلوب للإبقاء على إنتاج يتناسب مع الطلب ويفيض عنه قليلاً.
دول أوبك بلس كانت واضحة وصريحة وشفافة مع العالم بواقع سوق الطاقة والمخاطر عليه من احتمال نقص الإمدادات بسبب سياسات غربية تحديدًا خاطئة أدت لتراجع استثمارات شركاتهم بل الطاقة التكريرية وبالوقت ذاته يحاولون تحميل سبب ارتفاع الأسعار لدول أوبك بلس للتغطية على خطئهم الجسيم بأمن الطاقة من خلال مزيج يشوبه خلل كبير حتى لا يفقدوا صوت الناخب لهم الذي ارتفعت عليه تكاليف المعيشة وإن عدم اعترافهم بخطئهم هو أمر متوقع لكن بدأت بعض الأصوات لديهم تكشف ما لديهم من خلل بسياسات حكومية أوجدت أزمة الطاقة في اقتصاداتهم إلا أن دول أوبك بلس من المهم أن تكثف من حملاتها الإعلامية لإيصال المعلومات الدقيقة حول كل جهودها التي أنجزتها لتوازن السوق وكم تضخ من استثمارات لزيادة الطاقة الاحتياطية الإنتاجية لديها وكذلك الاستثمارات كافة بصناعة النفط عمومًا وكذلك توضيح أين يكمن الخلل والمخاطر المستقبلية إذا لم تتغير توجهات الدول المستهلكة كأوروبا وأمريكا بسياساتهم لتشجيع الاستثمار بالنفط والغاز فشركاتهم قد تكون سعيدة بعدم ضخ أي استثمار وتحقيق أرباح كبيرة بسبب ارتفاع أسعار النفط لكن النظرة الاستراتيجية لمستقبل الطاقة تتطلب واقعية من تلك الدول بالتعامل مع المخاوف المستقبلية وعدم تعليق فشل خططهم على دول أوبك بلس التي بذلت الجهود الكبيرة للحفاظ على توازن السوق.
التعليقات