عندما فتحت الصين أبوابها للمستثمرين الأجانب في التسعينات الميلادية، كان التايوانيون أول من استثمر هناك، وبدى الاستثمار حينها جاذباً لهؤلاء المستثمرين لما في الصين من أيدٍ عاملة منخفضة التكلفة، ولقربهم الثقافي من الصين. واستمرت العلاقة التجارية بين الصين وتايوان بالازدهار لعقود، غير متأثرة بشكل فعلي بالصراعات السياسية. وفي عام 2010 وصلت الاستثمارات التايوانية في الصين إلى 14.6 مليار دولار وهو مستوى قياسي لم تصله من قبل. ولكن هذه الاستثمارات انخفضت بعد ذلك بشكل حاد لتصل إلى نحو 4.7 مليار عام 2019، فلماذا انخفضت العلاقة التجارية بينهما رغم المصلحة الواضحة فيها؟
منذ التسعينات الميلادية كانت العلاقة تقليدية وبسيطة جداً في التبادل التجاري بين البلدين، فطلبات التصنيع تأتي للمستثمرين التايوانيين من الغرب، وهم يصنعونها في الصين، ليعيدوا تصديرها للغرب. وتطورت هذه العلاقة بشكل كبير مدعومة بزيادة قدرات الصين التي أصبحت تملك المعرفة التقنية، وخرجت من بوتقة اليد العاملة الرخيصة إلى أكبر من ذلك. وكان أثر هذا التطور إيجابياً على العلاقة بين البلدين. فبحلول عام 2008 أصبحت سُدُس الاستثمارات في الصين تأتي من تايوان لتكون بذلك أكبر مستثمر «أجنبي» - إذا صح القول – في الصين. وهذه الاستثمارات في غاية الأهمية، فعلى سبيل المثال، أكثر ثلاثة موردين لمصانع (آبل) في الصين موردون تايوانيون. كما أن ثلاثة من أصل أكبر 12 علامة تجارية في الصين تأتي من تايوان.
وقد ساهمت الحكومة الصينية في تعزيز العلاقة الاقتصادية بينها وبين تايوان، فأطلقت بين عامي 2018 و2019 أكثر من 20 نظاماً جديداً لجذب الاستثمارات التايوانية شملت إعفاءات ضريبية وامتيازات للفوز بالعقود الحكومية، وإمكانية الاستثمار في مشاريع حساسة؛ مثل شبكات الجيل الخامس، ومشاريع الذكاء الصناعي، وإنترنت الأشياء، وسكك الحديد، وغيرها. ولا توجد أي شركات أجنبية تملك نفس هذه الامتيازات في الصين إلا الشركات التايوانية.
ولكن الحكومة التايوانية أدركت أمراً خطيراً في هذه العلاقة، وهو مدى اعتمادها الاقتصادي على الصين، وهو الأمر الذي يجعل محاولة الاستقلال عن الصين أمراً انتحارياً. ولإدراك مدى اعتماد تايوان على الصين، يكفي معرفة أن هناك 400 ألف تايواني يعملون بالصين، وهم يشكلون أكثر من نصف القوى التايوانية العاملة خارج البلاد. كما أن الصين هي أكبر وجهة للاستثمار الأجنبي في تايوان (37 في المائة عام 2018). والصين تستحوذ على نحو ربع التجارة الخارجية لتايوان، بينما لا تُشكل التجارة الخارجية للصين في تايوان أكثر من 5 في المائة من مجموع تجارتها الخارجية.
هذه الأرقام أوضحت أن الاعتماد التجاري بين البلدين هو من طرف واحد فقط، ومنذ أن تولى الحزب الديمقراطي الحكم في تايوان عام 2016 وهو يحاول تقليل التجارة بين بلاده والصين بعد أن أصبح واضحاً له أن الصين تحاول تثبيط محاولات الاستقلال من خلال تعزيز العلاقات التجارية. وفي رأي بعض التايوانيين، فإن الأنظمة الصينية التي تسهل الاستثمار في تايوان ما هي إلا محاولات لإبقاء الاعتماد التجاري كما هو.
وفيما يبدو هذا التفسير منطقيا، إلا أن هناك تفسيرات أخرى لانخفاض الاستثمار بين البلدين، أولهما أن الشركات التايوانية لا تستطيع منافسة الشركات الصينية حالياً كما كانت في الماضي. فالأخيرة تطورت بشكل كبير مدفوعة بالمنافسة المحلية الشرسة، بينما لم تستطع الشركات التايوانية اللحاق بها. كما أن العديد من الشركات التايوانية خرجت من السوق الصينية بعد الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي السابق. وبكل الأحوال فإن الأرقام توضح انحسار التجارة التايوانية في الصين وانتقالها إلى جنوب شرقي آسيا وأستراليا ونيوزيلندا (وهو توجه تفضله كثيراً إدارة الرئيس الأميركي بادين)، فارتفعت الاستثمارات التايوانية هناك بنسبة 116 في المائة في عام 2021 عن العام السابق له لتصل إلى 5.6 مليار دولار.
إن عدم تكافؤ العلاقة التجارية بين الصين وبلدان كثيرة أخرى هو أمر غير خفي، وليست تايوان وحدها من لا تستطيع الاستقلال التجاري عن الصين، فمعظم دول العالم كذلك. ولكن تايوان حالة خاصة لأن الصين لديها مطامع سياسة هناك. وما زيارة (نانسي بيلوسي) إلا امتداد لزيارة الرئيس (بايدن) لدول جنوب شرقي آسيا، فكلاهما يسعى إلى تقليل اعتماد المنطقة على سلاسل التوريد الصينية، وخلق نظام تجاري بديل لا تلعب فيه الصين دوراً حساساً كما تفعل الآن. ولكن تايوان تختلف بكل تأكيد عن بقية الدول الآسيوية لأسباب جغرافية وجيوسياسية، وحتى مع انخفاض التبادل التجاري بينها وبين الصين، إلا أن استقلالها اقتصادياً عن الصين يعد مستحيلاً في الوقت الحالي.