لا شك في أن هناك عددا غير قليل من نقاط الالتقاء بين مقتدى الصدر والجماهير المحرومة المأزومة التي تنتظر ساعة خلاصها، والتي تَعتبر النخبَ التشرينية جهازَها التعبيري المكلف بالنيابة عنها في المطالبة بحقوقها.
فتغييرُ النظام الحالي الفاشل الفاسد، وترشيد سلاح الحشد الشعبي، وسحب سلاح الفصائل الصدرية والإطارية وتسليمُه للدولة، ومحاربة الفساد، ورفضُ التبعية لدول الخارج، هي من أهم مطالب الشعب العراقي، من زاخو وحتى حدود الكويت، وكان يمكن أن تكون هي الجامعَ المحتملَ الذي يُقنع الملايين من العراقيين بالسير تحت راية مقتدى لتحويل حركته الفئوية إلى ثورة شعبية شاملة تعيد للعراق عافيته وهيبته وسيادته، وللعراقيين حقوقهم وحرياتهم وكراماتهم وأرزاقهم. غير أن هناك أمورا مهمة أخرى كانوا ينتظرونها ولم تظهر في قوائم أهداف المعتصمين الذين يحاصرون مبنى البرلمان.
يريد مقتدى تغييرا تصحيحيا ولكن من داخل الوضع القائم أساسا على أن المذهب هو قائد الدولة، وأن طقوسه وقوانينه المقدسة هي ثوابتها. يعني جعلَ الدولة في خدمة المذهب، وليس العكس. وهذا ما أكدته وتؤكده البيانات والتغريدات والخطابات الصدرية المتتالية.
وكأنه لم يفهم أن جماهير الشعب الواسعة، بجميع طوائفها وقومياتها وأديانها ومناطقها، مُصرة على الخروج من هذا النسيج الطائفي المذهبي المغلق، كله، والتحرر من قيوده وحدوده وثوابته، والخروج إلى فضاء جديد خال من أي وصاية دينية أو طائفية أو قبلية، داخلية أو خارجية، وتأسيس دولة المواطنة الديمقراطية العلمانية التي تقوم على العدل والمساواة والحداثة، وعلى إرادة الشعب، وسلطة القانون.
هل ستسمح إيران والولايات المتحدة وتركيا وأربيل والأنبار بدولة ديمقراطية عادلة عاقلة مستقلة لا دينية ولا عسكرية ولا طائفية ولا فئوية، كما يريد التشرينيون؟ أشك في ذلك.
والذي لا يمكن إنكاره، لسوء الحظ، هو أن التيار الصدري كان عنصرا مهما وفاعلا في جميع الحكومات السابقة المغضوب عليها من الجماهير.
بل إنه زاد على مشاركته في تلك الحكومات الفاسدة الفاشلة جرائمَ غدر بالمنتفضين التشرينيين، حين بادر إلى قمعهم، وقتَل ناشطيهم في بغداد والناصرية والبصرة والنجف وكربلاء، بدعوى الحفاظ على السلم الأهلي والنظام وحرمة القانون.
وفي ثورته الجديدة لم يعتذر، ولو تلميحا، عن تلك الصفحات السوداء من علاقته بالجماهير التي يطالبها اليوم بالانضمام إليه.
وبالرغم من أن مقتدى تعهد بتحقيق التغيير الذي يريده بطرق ديمقراطية، إلا أنه لم يقدّم الدليل على ديمقراطيته، بل إنه رسخ شخصية الزعيم المعصوم المقدس الأوحد الذي لا تجوز معه المعارضة أو المناقشة، حتى من أقرب الناس إليه وأخلصهم لقيادته. ومثلما يقدسه أتباعُه، اليوم، فسوف يكون المطلوب، غدا، إذا ما نجح في حركته وتمكن من امتلاك قيادة الدولة، أن يعامله الشعب العراقي بنفس هذه العبودية والقداسة. ولنا في بدايات أنظمة صدام حسين ومعمر القذافي وعلي عبدالله صالح وعمر البشير أسوة حسنة.
فهو يتعامل مع أتباعه ومؤيديه بملكيته الكاملة لعقولهم وألسنتهم وأبصارهم وأسماعهم. وأمرُه لنواب تياره المنتخَبين من ناخبين صدريين وغير صدريين بالاستقالة الجماعية، ثم استجابتهم العاجلة بلا اعتراض ولا نقاش، إعلان عن ولادة مُسبَّقة لدكتاتورية من نوع جديد لا تختلف عن ولاية الفقيه في إيران.
لم يقدّم للتشرينيين، وهم وكلاءُ الجماهير الشعبية الصامتة، ما يقنعهم ويُطمئنُهم على مستقبلهم معه بعد نجاحه المحتمل، إذا ما انضموا إليه. فليس هناك ما يضمن أنه لن يقلد مثَلَه الأعلى الخميني الذي تحالف مع القوى الشعبية المدنية والديمقراطية واليسارية والعلمانية الإيرانية لإسقاط نظام الشاه، ثم حين نجح وتفرد بالسلطة غدر بحلفائه، كافة، وقتل منهم من قتل، وسجن من سجن، ونفى من نفى، وما زال الشعب الإيراني يئن، ويبحث عن طوق نجاة.
يطلب مقتدى من مؤيديه البقاء حول مبنى البرلمان إلى أن تتحقق المطالب، ويدعو العراقيين الآخرين إلى الاستفادة من وجوده، دون أن يقدم لهم مشروعا واضحا عمليا مقنعا يتضمن آليات التغيير المطلوب، وأدواته ومراحل تنفيذه.
كما لم يستشر أحدا من خبراء القانون والسياسة والفكر العراقيين، وما أكثرهم في الداخل والخارج، رغم أنهم جاهزون لخدمة الوطن والمواطن بأمانة وإخلاص.
كما لم يتعهد بقبول نتائج الانتخابات الجديدة التي يطالب بها. فماذا لو أنها لم تعجبه؟ أو ماذا لو فاز فيها خصومه بالأغلبية؟ هل سيلجأ إلى الاعتصام، ويحتل البرلمان، ويُعطل الدولة والمجتمع، مرة ثانية؟
مقتدى يطلب من مؤيديه البقاء حول مبنى البرلمان إلى أن تتحقق المطالب، ويدعو العراقيين الآخرين إلى الاستفادة من وجوده، دون أن يقدم لهم مشروعا واضحا عمليا مقنعا
لم يعلن، بصراحة، ردَّه على حليفه مسعود بارزاني الذي سارع إلى رفض إلغاء أو تعديل الدستور، على لسان خاله هوشيار زيباري، ولا رأيَه في مسألة النفط والغاز والخلاف حولها بين المركز والإقليم، ولا موقفَه من مطالبة حكومة أربيل بضم سنجار وبعض أطراف الموصل وكركوك إلى الإقليم.
لقد أبقى دعوته إلى محاربة الفساد في إطار العموميات، فلم يقل شيئا محددا عن تطهير القضاء الحالي. إذ لا يمكن محاكمة المتهمين بالفساد بقضاء مسيس وضعيف ومنحاز. كما لم يعلن أسماء الفاسدين الكبار الذين ينوي أن يدشن عهده بمحاكمتهم، ولم يتطرق لاستعادة الأموال التي اختلسوها وهربوها إلى دول الجوار.
لم يتعهد بتحديد هويات قتلة المتظاهرين، ومحاكمتهم، ولم يعتذر لأسرهم المنكوبة عن مسؤولية ذوي القبعات الزرق التابعين لتياره عن قتل بعضهم.
لا أحد تَعرَّف على مفردات النظام الجديد الذي يريده. هل هو رئاسي، أم برلماني؟ علماني أم ديني؟ ديمقراطي أم أوتوقراطي تكون فيه السلطة بيد شخص واحد بالتعيين وليس بالانتخاب، كما هو في إيران؟
وإذا اختار النظام الرئاسي، فما هي، برأيه، مواصفات من يحق له الترشح لرئاسة الدولة والحكومة؟ وما هو موقفه إذا انتخبَ الشعبُ العراقي، بالأغلبية، مسيحيا أو سنيا أو كرديا أو صابئيا أو تركمانيا علمانيا غير إسلامي، مثلا؟
أما إذا كان النظامُ البرلماني هو مطلوبُه، ثم اختارت أغلبية النواب رئيسا للحكومة غير شيعي، ومعارضا لوصاية مرجعية السيستاني وإيران ووكلائها، ورافضا لمبدأ فرض الطقوس المذهبية الخاصة بطائفة معينة على باقي طوائف الشعب ومكوناته، هل سيوافق، أم يدعو لإسقاطه، ويأمر أتباعه بمحاصرة البرلمان، مرة أخرى، إلى أن يلغي نوابُ الشعب قرارهم، ويأتوا برئيس وزراء يوافق على أن يكون شاهد زور؟
لم يتعهد بحل سرايا السلام وجيش المهدي، أسوة بحل الفصائل المسلحة الأخرى. ولم يوضح موقفه من ضرورة إخضاع البيشمركة الكردية لإمرة القيادة العامة للقوات المسلحة الفيدرالية، وحصر الدفاع عن الوطن ومراقبة حدوده بجيش الدولة، فقط لا غير.
وأخيرا، هل ستسمح إيران والولايات المتحدة وتركيا وأربيل والأنبار بدولة ديمقراطية عادلة عاقلة مستقلة لا دينية ولا عسكرية ولا طائفية ولا فئوية، كما يريد التشرينيون؟ أشك في ذلك.
التعليقات