العراق في كل أزمانه كان حالة إنسانية فريدة يضوع منه عطر المعرفة وتنسكب منه حروف الكتابة وينشر على من حوله الموسيقى ونظم العدالة وحقوق الإنسان. العراق يجلس على إرث حضاري وثقافي عظيم، وهذا الإرث عنصر يصنع مكانة ومهابة. وما من شعب تمكن من امتلاك هذا العنصر إلا وقد امتلك البقاء والديمومة والفعل والتأثير في محيطه وأكثر من محيطه. ولهذا فإن العراق باق لا يموت مهما تكالبت عليه قوى البغي والعدوان من الداخل والخارج.

استوطنت العراق حضارات كثيرة، السومرية والبابلية والآشورية وغيرها من الحضارات. ولأنه بلد ثري بموارده فقد اجتذب منذ غابر العهود قوى من الشرق والغرب لاستغلاله فجاءه المغول غازين، وحل به الصفويون محملين بثارات العرق والتاريخ، وغزاه العثمانيون حين قويت شوكتهم ومدوا نفوذهم على العالم الإسلامي شرقا وغربا، ثم جاءت بريطانيا بانتدابها؛ لتنوب عنها بعد سبعة عقود القوات الأمريكية التي أسقطت الحكم البعثي فجر الألفية الجديدة. لقد كان العراق مركزا للدولة العباسية، الكوفة والأنبار قبل أن يشيدوا بغداد عاصمة لهذه الدولة وتصبح في فترة من الفترات حاضرة العالم ثقافةً ومعرفةً وفنا وعلوما وفكرا. العراق في كل أزمانه كان موطنا يسكنه شعب عظيم مؤمن بتاريخه وبعروبته وثقافته، ولهذا فإن كل تلك القوى اندحرت وبقي العراق نابضا بعروبته حيا بتاريخه.

وكسائر شعوب الأرض ودولها خاض العراق معتركات حضارية وثقافية لإثبات وجوده وتثبيت كيانه مجتمعا فاعلا متفاعلا مع محيطه. في خضم معتركاته هذه دخل على الخط الأمريكان في عام 2003 ليغيروا منحنى التغيير فيعدل به عن نسقه التصاعدي إلى نسق تنازلي كان فيه تردي أحوال العراق شبيها بما حل به حين هاجمه المغول، بل أسوأ؛ لأن الغزو الأمريكي قد استهدف كل عناصر قوة العراق وبهائه، وقدم السلطة على طبق من ذهب لجماعات الإسلام السياسي ليعيثوا في أرضه تخريبا وفسادا وفوضى استكمالا لما صنعته قوات الغزو التي جندتها أمريكا ولما دبر له بريمر. نُكِبَ المجتمع العراقي منذ ذلك العام المشؤوم بنظام حكم طائفي مقيت يكرهه العراقيون بكل أطيافهم ومذاهبهم. ولأنه نظام طائفي مذاهبي يصب في صالح جماعات الإسلام السياسي فإنه لقي عملا متفانيا من هذه الجماعات لتكريسه في الواقع نظاما سياسيا بصرف النظر عن رضى مكونات المجتمع العراقي به فاستهدفوا كل مقومات الدولة وكل رموز سيادتها وفتتوا سلطاتها ليديروا البلد بمنطق المحاصصات الطائفية والغنيمة وطبعا بمنطق العمالة والخنوع لأرباب نعمة عصابات الإسلام السياسي؛ ولهذا، ها نحن نرى العراق اليوم وقد أصبح من أكثر مجتمعات العالم فقرا وأكثرها حاجة لتثبيت عناصر المدنية في بنى الدولة والمجتمع ورد الاعتبار لمفهومهما.

مما لا شك فيه أن العراق اليوم في حالة مخاض لولادة نظام سياسي يقطع مع الطبقة السياسية الفاسدة، ويرفض المحصصة الطائفية والتبعية السياسية لإيران ويعزز من إنتمائه العربي. فبنية النظام السياسي منخورة من الداخل، فهي نظام حكم طائفي لم ير منه الشعب العراقي خيرا، ولم يقنعه بجدوى الإبقاء عليه على مدى العشرين عاما الماضية، فسجل هبّات شعبية كانت هبة تشرين في العام 2019 آخرها وأشدها تأثيرا في ترسخ وعي وطني جديد جعلها ترتقي لدى بعض المحللين والمتابعين للشأن العراقي إلى مستوى الثورة؛ إذ عبر فيها التشرينيون وبصريح العبارة عن رفضهم التبعية لإيران وتوقهم لبناء دولة مدنية حاضنة لجميع مكونات العراق التاريخية. ولأسباب كثيرة، منها ما هو داخلي شأن ميليشيات الأحزاب الطائفية ومنها ما هو خارجي شأن إيران وأطماعها الدائمة في إخضاع العراق والهيمنة عليه قُمِعت هذه الهبة. ولكن بقيت تحت رماد انتفاضة تشرين أهداف تنتظر التحقيق بعد نضوج الظروف الذاتية والموضوعية.

الانتخابات الماضية كانت أحد الأسباب التي أعادت الزخم لولادة عراق جديد. فظهور التناقضات واتساع رقعتها واحتدام الصراع بين تيارات الإسلام السياسي، أو ما يسمى الصراع الشيعي الشيعي، وأنا أسميه صراع شيعة العرب وشيعة إيران، واحتدامها قادت التيار الصدري إلى العودة إلى ما يحقق مصالح الشعب العراقي بكافة مكوناته والوقوف في وجه الميليشيات الطائفية الفاسدة التي عاثت في العراق فسادا. هذه الميليشيات الطائفية تأطرت في مجموعة لا يربطها إلا الإذعان لما تطلب إيران تنفيذه في العراق لفصله عن محيطه العربي، وقد اتخذت هذه المجموعة مسمى «الإطار التنسيقي» عنوانا لها وضمت طيفا من اللصوص والفاسدين يكفينا شاهدا عليهم الفاسد والعميل المجاهر بعمالته نوري المالكي، ورسمت لنفسها أهدافا أولها وأهمها تكريس النظام الطائفي عبر العمل على استمراية نظام المحاصصة من خلال ما يسمى بالتوافقية؛ حتى يحولوا دون التيار الصدري وتشكيل حكومة أغلبية وطنية قد تفتح ملفات الفساد والعمالة وتعيد تشكيل وعي وطني عراقي جديد لا يروق للعملاء والفاسدين ومن يقف وراءهم في طهران وواشنطن.

المجتمع العراقي يرهص بحدوث تغييرات مهمة حاسمة تعود به إلى حضنه العربي مجتمعا مدنيا مستقلا سياديا لا سطوة دينية تحكمه ولا تبعية إيرانية توجهه، لكن هذا يتطلب، من وجهة نظري، أمرين اثنين ضروريين، أولهما: أن يبقى التيار الصدري، ومقتدى الصدري خصوصا، على موقفه هذا ضد الإطار التنسيقي، وخصوصا نوري المالكي. وثانيهما: أن يبدي التيار انفتاحا أكثر على التشرينيين؛ لأن حراكهم هو الوحيد الذي لم يتلوث بالطائفية في هذا الليل العراقي الذي استمر ما يقارب عشرين عاما.