شهدت علاقة الإنسان بالطبيعة، في عصرنا الحديث، على تحول دراماتيكي تغيرت به عما كانته في الماضي؛ أي على مدى تاريخ طويل ظل فيه الإنسان جزءاً من الطبيعة غير متمايز عنها أو منفصل. قادهُ شعور مُستَجَد بالتميز والتفوق داخل النظام الطبيعي، إلى التفكير في مبارحة هذا النظام وتأسيس نظام موازٍ له ونقيض يكون أكثر مواءمة لنوع النظرة الجديدة التي شرعت في التكوُّن لديه عن نفسه. وكان ذلك إيذاناً بميلاد العصر الحديث.

ليس لفكرة السيطرة على الطبيعة وقهرها وإخضاعها وتسخيرها تاريخ طويل؛ تاريخها يعود إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر على وجه التحديد: أغْرَتْ نتائج العلم الحديث الإنسان بإتيان تلك السيطرة، وتحويل الطبيعة من كائن أليف إلى كائن ضار يحتاج إلى قهر وترويض، ومن حاضنة إلى موضوع برّاني لفتوحاته! وهي اللحظة التي انفصل فيها الإنسان عن الأخلاق الطبيعية؛ أي الأخلاق التي مَأتاها من الشعور بالانتماء إلى الطبيعة، لينتحل فيها لنفسه أخلاقاً أخرى هي أخلاق القوة: القوة التي أوحى بها العلم، وأوحى بها الشعور بمركزية الإنسان وفرادته، وأتت سلطة العقل والعقلانية ترسخها فيه لتتحول بتأثير ذلك كله إلى أخلاق المحارب.

قُدِح في الطبيعة منذ ذلك الحين، وباتت تُمثّل في الوعي رديفاً لما قبل فعل الخَلق الإنساني، ثم وُضع كل شيء مما أنتجه الإنسان في مقابلها: التاريخ مقابل الطبيعة، والثقافة مقابل الطبيعة، والعلم مقابل الطبيعة، والصناعة مقابل الطبيعة، والتقنية مقابل الطبيعة.. ثم لم تلبث فلسفة العَقد الاجتماعي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، أن رسخت هذه النظرة من طريق دفاع فلاسفتها (توماس هوبس، باروخ سبينوزا، جون لوك، جان جاك روسو..) عن نظام بديل للنظام الطبيعي هو النظام السياسي والمدني، مع قَدْح شديد في النظام الطبيعي بحسبانه نظامَ حرب دائمة.

هكذا بدت فعاليات الإنسان جميعها منتظمة ضمن نظام جديد؛ نظام ما بعد الطبيعة.

إنه عصر القوة بامتياز، وعصر فلسفة القوة حتى قبل أن يَدْلِف إلى رحابها فكر نيتشه، عصر الثورة العلمية، واكتشاف البارود، وعنف الحروب الدينية، والثورة الصناعية، وزحف النظام الرأسمالي، وسيادة العقلانية والروح التجريبية. وبهذه الموارد والأدوات أمكن الإنسان أن ينجز فتوحاته وأن يسيطر على الطبيعة.. وعلى الإنسان نفسه ويمتص بالاستغلال قواهما.

بالبارود سيطر على الأرض، انتزع الغابات والأدغال من الحيوان بعد أن أباده ليحوّلها إلى مزارع أو مدن، محتفظاً ببعض سكانها الأصليين في أقفاص للفرجة في حدائق الحيوانات. وبالبارود سيطر على ثلاثة أرباع الأرض التي يعيش فيها «إنسان الطبيعة» الذي في عُرفه لم يستحل إنساناً بعدُ على منوال الإنسان الأوروبي الأبيض، وبَرّر استعماره بنشر الحضارة والتمدن في المجتمعات «البربرية»،

وبالصناعة حوّل الطبيعة وسخرها لمصلحة من غير أن يأبه لما تَسْتَجرُّه من إخلال بالتوازن البيئي، وبها وبالعلم أنجب نقيضها: التقنية، وكرس سلطانها في العالم المادي، وبالرأسمال حول قوى الطبيعة وقوة العمل الإنسانية إلى سِلع للربح وتعظيم الأرباح، فانتهى باستغلاله الإنسان إلى تشييئه ومصادَرة جوهره الإنساني، وبالعقل والعقلانية وضع ما قبلهما من ملَكات إنسانية ضَعَةً وأزرى عليهما: الخيال، والحدس، والخَلْق.

عصر عبادة القوة هو ذلك العصر؛ العصر الذي ما برحنا نعيش فيه؛ عصر دين جديد يَتألّه فيه إنسان القوة ليفرض مشيئته الجبارة على الطبيعة والإنسان. وليس من حدود فيه لشريعة القوة: الداروينية الطبيعية تنتخب الأقوى: الإنسان مقابل الطبيعة والحيوان، وتُشَرْعِن للأقوى السيادة على ما دونه قوة، والداروينية الاجتماعية تنتخب الأقوى: الإنسان الأبيض مقابل سائر السود والملونين، والأعراق «النفيسة» مقابل الأعراق «الخسيسة»، والطبقات العليا من المجتمع مقابل الطبقات الدنيا، وهكذا تؤسس علاقة السيد/العبد الجديدة لتبرير أنواع الجرائم كلها: الإبادات الجماعية، والحروب الاستعمارية، والعنصرية، والاسترقاق، والاستغلال الطبقي..!

هذه القوة وحواملها (العلم، العقل، الرأسمال) التي فرضت شريعتها في العصر الحديث، وأنشأت مؤسساتها التي توسّلتها في السيطرة والإخضاع، فرضت أخلاقَها على كل أخلاق (أخلاق طبيعية، أخلاق دينية، أخلاق إنسانوية..)، ونظرت بعين الاحتقار إلى قيم الرحمة والعطف والعفو والإحسان والتضامن والسلم بحسبانها إياها أخلاقاً للعبيد المغلوبين (نيتشه)، مبجِّلة أخلاق القوة. في المقابل باتت ثقافتها السائدة التي أشاعتها مؤسساتها هي الوضعانية والعلموية والذرائعية: أديان العصر الجديدة.