يحار المرء في كيفية متابعة أنشطة الباحثة والأديبة الكويتية بزة الباطني، فهي لا تدعك تتقصى نشاطًا من أنشطتها الكثيرة والمتشعبة إلا وتواجهك بآخر. هي كذلك منذ أن عرفتها، حركة لا تتوقف، وتنقل دائم من مكان إلى آخر، واهتمامات متنوعة، يصاحبها مرح وخفة دم ورقة وظرف معطوفة على قدر كبير من الرقي في الأخلاق والذوق الرفيع في الانتقاء وأسلوب التعامل مع الآخر.

عرفتها في بيروت السبعينات حينما كان كلانا يدرس هناك في جامعتين مختلفتين. جمعتنا اتحادات الطلبة وحفلاتها ورحلاتها وأنشطتها المتنوعة، ثم انقطع التواصل فجأة بسبب الحرب الأهلية اللبنانية التي فرقت شمل الزملاء والأصدقاء، وأخذت كلا في طريق مختلف. كانت بزة آنذاك تدرس اللغة الفرنسية ضمن مجموعة كبيرة من المبتعثات الكويتيات إلى كلية بيروت الجامعية للبنات (الجامعة الأمريكية اللبنانية حاليًا)، وباندلاع الحرب قررت الحكومة الكويتية تحويلهن لمواصلة دراستهن في فرنسا.

وبالفعل أنهت بزة دراستها وتخرجت من جامعة جرونويل الفرنسية في عام 1976 وعادت إلى الكويت مسلحة بشهادة التخصص في تدريس اللغة الفرنسية لغير الناطقين بها، لتتزوج من هلال حمد فجحان المطيري وتنجب وتكون أسرتها الصغيرة، وتبدأ مشوارها الوظيفي مدرسة للغة الفرنسية في المرحلة الثانوية بدءًا من عام 1977م وحتى عام 1983م. وإبان عملها في سلك التدريس شاركت في تأليف منهاج اللغة الفرنسية لثانوية نظام المقررات.

ولدت بزة الباطني عام 1954 بمنطقة المرقاب ابنة لعائلة حملت لقب الباطني نسبة إلى منطقة الباطنة العمانية. وجدت مقالا في جريدة «الجريدة» الكويتية (21/‏2/‏2014) حول والدها «الملا غلوم الباطني» جاء فيه أنه ولد في ولاية صحار العمانية سنة 1875 تقريبًا، وقدم إلى الكويت وهو في سن العاشرة، حيث استقر لدى أسرة العسعوسي في بداية الأمر وعمل معهم في رحلاتهم الشراعية لسنوات طويلة قبل أن يشتد ساعده ويؤسس أسرة بزواجه من إحدى سيدات عائلة السداني المعروفة، وينتقل إلى فريج المهارة بالحي القبلي، حيث عمل كنوخذة سفر مع أسرة العثمان النواخذة. بعد ذلك انتقل للسكن في منطقة المرقاب بالقرب من مسجد الحمد، ثم سكن في النقرة وتوفي بتاريخ 24 نوفمبر 1956، تاركًا خلفه ستة أبناء وثلاث بنات من زيجات مختلفة. وأخبرنا كاتب المقال أن الرجل عـُرف بين الناس بالصلاح والتقوى والاستقامة فلقب بـ«الملا غلوم»، وأن ابنه البكر «محمد» توفي في طريق عودته من الهند على ظهر بوم النوخذة بدر عبدالوهاب القطامي في عام 1938 ودفن في منطقة اسمها «جصة» على ساحل عمان. وطبقًا لموقع تاريخ الكويت الإلكتروني فأن لأسرة الباطني مصاهرات مع العديد من عوائل الكويت المعروفة مثل: السداني والشايجي والمطيري والدوسري والشمري والحوطي والسميط وبورسلي والبشر وغيرها.

درست بزة ابتداء في روضة جول جمال بمنطقة حولي، ثم درست المرحلة الابتدائية بمدرسة ميسلون بمنطقة القادسية، فالمرحلة المتوسطة بمدرسة القادسية للبنات، لتلتحق بعد ذلك بثانوية الجزائر للبنات بمنطقة الشامية التي تخرجت منها عام 1972م، وهو عام حصولها على بعثة لإكمال تعليمها في لبنان. وأثناء فترة دراستها في لبنان تولت أمانة سر الاتحاد الوطني لطلبة الكويت ـ فرع بيروت ما بين عامي 1973 و1975، كما حرصت أن تستثمر فترات العطلات الصيفية في ما يفيد، فكانت تذهب في دورات صيفية دراسية إلى مدن فرنسية مختلفة.

أحبت بزة عملها في سلك التدريس، لكنها اكتشفت فجأة مجالاً آخر للعطاء والإبداع، فقررت في عام 1983 أن تستقيل وتدير دفة حياتها نحو وجهة أخرى. وحول هذا التغيير في حياتها، اخبرتني حينما التقينا في البحرين، من بعد سنوات افتراق طويلة، أنها انتهزت فرصة وضعها لطفلتها الرابعة في مايو 1983 لأخذ إجازة أمومة غير مدفوعة الأجر لمدة عام، وأنها قضت تلك الفترة تعتني بأطفالها بمساعدة والدتها، وتغنيان لهم معًا، ما جعلها تكتشف أغان جديدة للأطفال لم تسمعها من قبل من والدتها، فراحت تدونها كي تحفظها. تقول بزة: «كانت تلك اللحظة المشعة التي أضاءت لي الطريق الذي كنت أعلم بوجوده ولم أستدل عليه بعد. أعادت تلك اللحظة وصلي بطفولتي حين كنت أدون الحكايات لأرويها فكانت البداية الجديدة. بدأت حملة فردية لجمع وتدوين أغاني المهد وفي نهاية إجازة الأمومة كان بين يدي كتاب (من أغاني المهد في الكويت) الذي نشره لاحقًا مركز التراث الشعبي لدول مجلس التعاون».

وتضيف قائلة: «بعد تلك الانطلاقة، سعيت لجمع وتدوين كل ما قدر لي من تراثنا الشفاهي بشغف عاشق. عشقي الذي تجدد وبدأ مع أغنيات المهد كانت شرارته نظرة أدبية فرضت ميولي الشخصية وطبيعة دراستي للغة الفرنسية وآدابها ولم أدرك حتى بعد أن بدأت الجمع بأنني صرت في خضم المحيط الملئ بالكنوز والجمال ولم أدرك حتى بأنني ما عدت أبحر ولكن أغوص».

والمدهش في حكاية بزة مع مجالها الجديد أن قيامها بالأعمال الميدانية لجمع التراث الثقافي غير المادي كان جهدًا فرديًا بحتا، حيث لم يتم تكليفها من أي جهة رسمية، ولم تحظ بأي دعم مادي من أي طرف، ولم تلتحق بأي دورات تدريبية لهذا الغرض. لذا فهي تفتخر أنها كانت الباحث الميداني والمدون والكاتب والرسام والطباع والمصمم والناشر والموزع، وهو ما يعكس جلد وصبر بزة على العمل، وشغفها اللامحدود بما اختارته. ولعل ما ساعدها في تنفيذ عملها باتقان هو ما اكتسبته من مهارات أثناء دراسة اللغة الفرنسية، «كنا نكلف ببعض الأعمال الميدانية لجمع مواد شعبية للبحث ولدراسة اللهجات والمفردات والابداعات الشعبية الخاصة بفئات مهنية واجتماعية متنوعة، ودعمت ذلك بقراءات مكثفة من كتب مختصة بعلم الفلكلور».

وهكذا، نجد أن الفتاة الصغيرة التي ولدت في بيئة أمية، وكانت تتلذذ في طفولتها بأداء دور الراوية للحكايات لصديقاتها وقريباتها ونساء محيطها العائلي المسنات، تتحول في كبرها إلى راوية للقصص الشعبية لأطفالها وكل أبناء وطنها الكويتي والخليجي. ففي عام 1984 تركت تدريس اللغة الفرنسية وانتقلت للعمل في مركز التراث الشعبي (بيت البدر) التابع لوزارة الإعلام الكويتية والمصنف كمركز للفنون الشعبية. ومن خلال عملها الجديد هذا، سعت لجمع وتدوين قدر كبير من التراث الشفاهي الكويتي، وهو الجهد المبارك الذي أثمر تدريجيا عن صدور العديد من مؤلفاتها، ومنها: كتاب «طرائف وحكايات نسائية» الذي صدر في جزئين عامي 1985 و1994 على التوالي، محتويًا على 30 حكاية وطرفة حول علاقة المرأة بالمرأة أما وابنة وأختا وقريبة وضرة، وعلاقتها بالرجل أبًا وأخًا وقريبًا وزوجًا وحبيبًا.

ويمكن القول إن نجاح كتابها هذا جماهيريًا مهد لها الطريق لخوض تجربة رواية الحكايات الشعبية والموروث الشعبي عن طريق الإذاعة الرسمية، حيث قدمت الباطني من خلال إذاعة الكويت برامج باللهجة المحلية، قامت فيها بدور الراوي وتخللتها فقرات درامية من تمثيل كبار نجوم المسرح الكويتي مثل مريم الغضبان وعلي المفيدي وأحمد الصالح وسعاد عبدالله وإبراهيم الصلال وغانم الصالح. وهذا بدوره فتح أمامها الباب لخوض تجربة الظهور على الشاشة الفضية التي قدمت من خلالها 15 حلقة من برنامج «حكايات كويتية» عام 2000، ما ساهم في انتشار إسمها وزيادة المعجبين بعملها لتجد نفسها مع مرور الوقت مطلوبة للحديث عن التراث الشعبي في المحاضرات والأمسيات والندوات داخل الكويت وفي دول الخليج المجاورة.

في عام 1985 بدأت الباطني في إصدار سلسلة من الكتب الموجهة للأطفال تحت اسم «التراث الشعبي للإطفال من عمر 8 ـ 12»، وتمثلت البداية في ظهور كتاب حول الأزياء الشعبية، ثم كتاب حول الخرافة الشعبية، فكتاب حول الألغاز الشعبية (الغطاوي)، علمًا بأنها زينت كل هذه الكتب برسومات من إعدادها تناسب المادة وسن المتلقي. ولعل أحد الأدلة على نجاح عملها هذا هو قيام العديد من المدارس العربية في الدول الأجنبية (مثل كندا والدنمارك) باقتناء كميات من هذه الكتب لتوزيعها على طلبتها وطالباتها.

أما العام 1987 فقد شهد ميلاد عملها الأول باللغة الانجليزية عن فلكلور النساء والأطفال، وقد صدر تحت عنوان Traditions، متضمنًا الكثير من الحكايات الشعبية بأسلوب مبسط بهدف تعليم الطالب اللغة الانجليزية عن طريق ابداعاته الشعبية المحلية. بعد ذلك كتبت الحكايات باللغة الفرنسية ضمن كتاب Le Koweit Histoire et Flklore، واتبعتها بكتاب مماثل باللغة الألمانية تحت عنوان Geschichte.

وكان العام التالي (1988) من الأعوام الحافلة بالعمل والإبداع في حياة بزة، إذ قامت فيه بتلبية دعوة تلقتها من مؤسسة الانتاج البرامجي المشترك لدول الخليج للمشاركة في كتابة حلقات لبرنامج الأطفال التلفزيوني «إفتح يا سمسم» (الجزء الثاني) والموجه لأطفال ما قبل المدرسة. كما تلقت دعوة ممائلة للمشاركة في كتابة حلقات برنامج «افتح يا وطني أبوابك»، وكتابة المسلسل الكارتوني «زعتور» (أول مسلسل كرتون عربي خليجي خالص)، فوظفت في كل هذه الأعمال ذخيرتها من الحكايات والأغاني والمعتقدات الشعبية، ومواهبها في كتابة الحوار والأغاني وتصميم الرسوم وتنفيذها. إلى ذلك قامت في عام 1997 بتقديم برنامج «بيت الحزاوي» من تلفزيون الكويت بطلب من وزير الإعلام آنذاك الشيخ سعود الصباح رحمه الله، حيث تقمصت فيه دور «الخالة» التي تروي الحكايات. وهنا أيضًا قامت بزة بنفسها بأعمال التصميم الداخلي وصناعة المجسمات والدمى ووضع الرسوم التفصيلية المصاحبة وكتابة المقدمة الغنائية وتدريب الأطفال وغير ذلك.

بعد ذلك سجلت بزة 30 حلقة تلفزيونية من برنامج «حكايات خليجية» تضمنت حكايات خرافية من دول مجلس التعاون باللغة الفصحى لصالح مؤسسة الانتاج البرامجي المشترك لدول الخليج، ففازت إحدى الحلقات (حلقة لا يصح إلا الصحيح) بالجائزة الأولى في مهرجان تونس للبرامج الإذاعية والتلفزيونية في يونيو 2008. وفي عام 2008 نقلت بزة نشاطها إلى البحرين حيث قدمت، بطلب من متحف البحرين الوطني، ورشة عمل ومحاضرات حول أنماط الحكاية الشعبية وطريقة تدوينها وروايتها وتعريف الحكواتي وأساليبه، علمًا بأنها حاضرت أيضًا في أمسيات وندوات ومناسبات ثقافية مختلفة في كل من المنامة والدوحة ومسقط وأبوظبي والشارقة وستوكهولم وبكين.

من آيات شغف بزة الدائم بالبحث والتنقيب وتعلم الجديد، أنها لم تكتف بما راكمته من معارف ولغات وخبرات طوال سنوات مسيرتها الدراسية والمهنية، وإنما عادت إلى صفوف الدراسة مجددا من خلال الالتحاق بمركز خدمة المجتمع التابع لجامعة الكويت لدراسة اللغة الألمانية في منتصف الثمانينات ودراسة اللغة الأوردية في منتصف التسعينات. وما بين هذا وذاك راحت تنشط من خلال عضويتها في: نادي الكويت للسينما، ورابطة الأدباء الكويتية، اللجنة العليا لأمناء مجلس جائزة الطفل العربي (دولة قطر 2006)، الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية (2011)، اتحاد التشكيليين العرب (الكويت 2012)، الرابطة الدولية للفنون (باريس)، اتحاد جمعيات الفنون التشكيلية الخليجية (الكويت)، واللجنة العليا لأمناء جائزة أدب الطفل في مجال العمل الخيري (الكويت). كما راحت تكتب البحوث المتتالية في المواضيع التي استأثرت باهتماماتها، او تترجمها عن الإنجليزية والفرنسية وتنشرها في بعض المجلات الثقافية الرصينة ومنها بحوث عن: الدمى في تاريخ الشعوب، تاريخ العصا، القواقع والأصداف، المجوهرات السبئية اليمنية، طرق صيد السمك في الكويت، الحرف والمهن الشعبية التقليدية الكويتية، السدرة، المشموم أو الريحان، رقصة الفريسة في الكويت والعالم. هذا علاوة على مجموعة من البحوث عن الفريج الكويتي والبيت الكويتي والعادات والتقاليد والمناسبات والأكلات الشعبية والأمثال الكويتية، وبحثين باللغة الانجليزية حول الكويت قبل وبعد اكتشاف النفط.

ومن صور أنشطتها المتنوعة الأخرى إقامة المعارض الفنية لرسوماتها وأعمالها، حيث أقامت مسرحًا للعرائس ومعرضًا للوحاتها الخاصة بأنشطة المرأة الكويتية في الماضي في المتحف الملكي باسكوتلندا عام 1985، وعرضت مجموعة من الدمى التي صنعتها في معرض «قصة الكويت» بلندن عام 1987، وأقامت معرضًا شخصيًا للفن التشكيلي بعنوان «لحظات ثمينة» في لندن عام 2005، ومثلت بلادها في ورشة مشاهير الرسامين العرب في الصين عام 2012، وشاركت في ورشة الفنانين الكويتيين بجمهورية قبرص التركية عام 2014، ناهيك عن مشاركتها في العديد من معارض الفنون التشكلية في الكويت والبحرين.

وأخيرًا فإن بزة، التي عاشت 15 سنة من عمرها ما بين عامي 2000 و 2014 في بريطانيا، تؤمن بأن تدوين الحكايات الشعبية، بما فيها الحكايات الخرافية المختلف على أصلها، أمر مهم كونه يحفظ للأجيال المتعاقبة مادة من صميم بيئتها ومعتقداتها ومجتمعاتها. فالحكاية الشعبية القديمة، في نظرها، «لها القدرة على أن تتعايش معنا في عصرنا الحاضر، بل وتثري حاضرنا وتثير مخيلة الطفل المعاصر». كما عبّرت في حواراتها الصحفية عن حزنها من وابل الثقافة الذي ينهال على الطفل من كل جانب في العصر الراهن، متمنية أن يُترك الطفل لبراءته وطفولته وأن نراه يلعب ويجري ويغني بمرح وبفرح وأن ندعه يبتكر بنفسه على النحو الذي يحدث في المجتمعات.