في العراق هناك فوضى عنوانها التظاهرات والاعتصامات. فبعد انسحاب مقتدى الصدر من مجلس النواب أعلن عن ذهابه إلى تنفيذ مشروعه في إلغاء نتائج الانتخابات السابقة.

من غير شروط ولا رغبة في الحوار ذهب الرجل إلى الأقصى. لن يسمح لخصومه بالهيمنة على المرحلة القادمة. لا مجلس نواب لهم ولن تكون لهم القدرة على تأليف الحكومة بمصطفى الكاظمي أو بأحد رجالهم.

حين دعا إلى احتلال مجلس النواب أسقط السلطة التشريعية التي لم تكن قيمتها الاعتبارية ترتبط بأعضاء المجلس الذين غلب عليهم الانحياز إلى أحزابهم وليس إلى الشعب في كل الدورات السابقة ولن تكون الدورة الحالية استثناء.

لقد فشل الصدر في إدارة انتصاره الانتخابي فقرر أن يقلب الطاولة على الجميع من خلال الزحف الشعبي على مجلس النواب. احتلاله والعبث به والتعامل معه كما لو أنه سوق شعبية ومن ثم محاصرته بحشود لا تعرف شيئا عن مستقبلها. السيد وحده يعرف ذلك المستقبل.

في المقابل فإن الأحزاب التي كان ينبغي أن تقوم بإدارة العملية السياسية بعد انسحاب الصدر لم تلجأ إلى السبل القانونية لمواجهة ذلك السلوك الطائش، بل عملت على تجييش شارعها ومن ثم الخروج بتظاهرات والقيام باعتصامات. ولكن أين الدستور من كل ذلك؟

غالبا ما كان السياسيون العراقيون يتحججون بالدستور في الدفاع عن أنفسهم وعن وجودهم وعما يسمونها بشرعيتهم. ولكنهم هذه المرة وبعد عشرة أشهر من الانتخابات لم يعد أحد منهم يتذكر أن الدستور في إمكانه أن يحمي العملية السياسية. لقد تم اختراقه وكل الأطراف تقف اليوم خارج مظلته.

وهكذا صار الشارع هو الحكم.

لا يزال النظام السياسي قادرا على الدفاع عن وجوده كما أن الصدر قد لا يكون هدفه إسقاط النظام غير أن الفوضى ستلتهم الجزء الأكبر من آمال الشعب العراقي في التغيير

ولكنه حكم منفلت وطائش وأهوج لا يستند إلى أي قوانين ثابتة. الشارع هو طرف مضلَل لا يتحرك بإرادته. وكله إن أردنا الحقيقة شارع فقير تحركه الرشاوى التي لا تكلف أصحابها مالا كثيرا. مضحك الثمن الذي يتمكن سياسي عراقي من خلاله من تنظيم تظاهرة أو القيام باعتصام. رجل بثراء نوري المالكي سيقوم بذلك بكل يسر.

هل الشارع العراقي منقسم الآن حقا بين التيار الصدري وأحزاب الإطار التنسيقي؟ تلك واحدة من أكاذيب العراق الجديد. فالعراقيون يائسون من إمكانية أن يؤدي هذا الصراع إلى إحداث تغيير حقيقي في النظام. الطبقة السياسية المستفيدة من النظام تحاول أن تعيد إنتاج النظام من خلال نزاع بين أفرادها. وهو أشبه ما يكون بالنزاع العائلي الذي لا علاقة للآخرين بنتائجه. نزاع داخل النظام سيحرص المشاركون فيه على أن لا يؤدي إلى سقوط السقف على رؤوسهم.

يمكن أن تستمر الفوضى إلى ما لا نهاية. إذا كان الصدر يراهن على أن المالكي ومن حوله المتحالفون معه سيتعبون ويستسلمون في النهاية فإنه واهم وهو يثبت من خلال ذلك الوهم أنه لا يعرف خصومه ولا يفهم شيئا من أصول اللعبة السياسية الإيرانية. فإيران لم تتدخل بشكل مباشر في الصراع غير أن ذلك لا يعني أن تعليماتها لم تكن تصل إلى أتباعها. في كل الأحوال فإن إيران لن تتخلى عنهم.

أما ما يُقال عن الصفقة التي عقدها الصدر مع إيران من أجل أن تسحب يدها عن أتباعها، فذلك محض كلام فارغ. لا لأن الصدر لا يفعلها بل لأن إيران لا يمكن أن تقوم بذلك ولديها أكثر من مئة ألف مقاتل هم أفراد الحشد الشعبي في العراق الذين يتبعون الولي الفقيه وليس لديهم ولاء للعراق.

لذلك فإن الشعب العراقي لا علاقة له بما يجري في الشارع. هناك شارعان يتنازعان في العراق. شارع الصدر وشارع الأحزاب الموالية لإيران. سيحرص الطرفان على أن يقتتلا. ولكن ما هو الثمن؟

لا يزال النظام السياسي قادرا على الدفاع عن وجوده كما أن الصدر قد لا يكون هدفه إسقاط النظام غير أن الفوضى ستلتهم الجزء الأكبر من آمال الشعب العراقي في التغيير. هل إنهاك الشعب العراقي هو الهدف من كل ما جرى ويجري؟

إذا بقي نظام المحاصصة على حاله وعادت الأحزاب إلى سيرتها الأولى لن يكون أمام العراقيين إلا أن يلجؤوا إلى شارعهم. ذلك هو الشارع العراقي الحقيقي الذي لن تحتمي وراءه الأحزاب ولن تحوم حوله الشبهات وهو الصوت الحقيقي الذي سيصل إلى العالم باعتباره صوت العراقيين الذي يعبر عن طموحهم في العيش الكريم.