كان بكلَّ بلدٍ، أطفأت الصّحوة الدينيّة المسيسة مصابيحه، منافحون، مَن عُرفت أسماؤهم ومَن لم تُعرف، ومَن عاش على قلق ومَن قُتل بفتاويها، كانوا شجعاناً، في وقت امتلك «الصَّحويون» كلّ أسباب القوة والنفوذ، وحمزة المزينيّ، الأكاديمي في اللسانيات والمترجم البارع، أحد أبرز المنافحين ضدها. كنا نتبادل الرسائل، عن مأزق الطائفيَّة والكراهية، ما يكتبُ وما أكتبُ، هذا ما جعلني أهتم بسيرته، التي صدرت عن «دار مدارك» بالرِّياض(2020-2021)، عنوانها «واستقرت بها النَّوى»، وأحسب أنَّه قصد الاستقرار على ما بدأ به، وما بدل تبديلا.
كان تنويرياً صدوقاً، داعماً للتَّعايش داخل الوطن المختلط، في وقت كانت هيمنة الطَّائفيين تكتم الأنفاس وتزهق الأرواح. وقف المزيني أمام محاكمهم، وحُكم عليه، وكم كانت الفضيحة لو نُفذ حكمهم، المستل مِن فقههم، بالأكاديمي أمام طلابه وزملائه، لولا أن يسحب مكتب ولي العهد حينها القضية، ليكون المزينيَّ سبباً بإلغاء النَّظر بقضايا النَّشر، إلا مِن قِبل وزارة الإعلام والثَّقافة.
كانت القضية التي رفعها ضده الصَّحويون مقاله «انحسر التَّنوير مثلما اختفت البسمة»(الوطن 24/6/2004)، ثم مقال تساءل فيه عن تراجع التَّنوير في جامعة الملك سعود، الجامعة التي عرفها طالباً وأستاذاً. وكان السؤال: لماذا استُبدل الزّي الدِّيني، مع إطالة اللّحى وتقصير الثَّياب، بالزَّي المتعارف عليه؟!
احتضنت الجامعة أساتذة عراقيين كباراً في مجالاتهم، أبعدوا عن وطنهم(بعد 1963) بسبب تعصب مِن نوع آخر، مِن وزن المخزوميّ، والطَّاهر، والجادر، ونوري جعفر وغيرهم، الذين حرض ضدهم مؤسس «الإخوان المسلمين» بالعِراق، لكن لم يؤخذ تحريضه بالاعتبار، وقف ضده حينها وزير المعارف حسن آل الشّيخ، فالصَّواف كان معبأً بالخلاف العقائدي، بينما الوزير أُعجب بعلمهم. ذهب الصَّواف وتأثير «الإخوان» قيد الإزالة، لكنَّ صورة المخزومي ظلت تزين بوابة قسم اللُّغة العربية في الجامعة، وقفتُ أمامها متأملاً(2010).
بعدهم قَدم مدرسون مِن الإخوان المسلمين، فأسسوا لصحوة وفق حزبيتهم، عن هذا الظَّرف، الذي واجهه المزيني، وصار، هو وغيره مِن التَّنويريين، هدفاً للعِقاب والاعتداء في المحاضرات والأندية والمساجد، كتب: لعبت الجماعة دوراً «بسبب ما أتيح لهم مِن فرص التَّمكين في مجال التَّعليم العام والتَّعليم الجامعيّ خاصة، ومما زاد في تمكينهم امتزاجهم بالتَّيار الدِّيني المحلي المحافظ، مما أنتج مزيجاً حركياً متشدداً، استطاع في نهاية الأمر اكتساح الجو التَّنويريّ، الذي كان في طور النّمو والتَّوسع»(واستقرت بها النَّوى).
لم ينثنِ المزيني عن المواجهة، فعاد وكتب مقال «دعاة لا معلمون»، فالمعلم صار داعيةً لا مربياً، وأبرز مظاهر الدَّعوة تكريس «الموت» ثقافةً، ولقوتها ظهرت النَّتائج مفجعة عندما تمكنت الجماعات المتطرفة مِن المجتمع، فأخذت أعداد الانتحاريين تتزايد، وهذا ما كان يخشاه المزيني وصحبه. أُدخلت في التَّعليم مفردات «الدَّجال» والسِّحر، و«عذاب القبر»، و«الحجاب»، وكيف يُغسّل الأموات، وغيرها مِن الفزع الظَّلاميَّ. مِن هذا تأتي أهمية الإجراءات الجديدة في التعليم، لتنظيف تلك المخلفات. كان هذا السُّلوك عاماً، لا يخص ما واجهه التَّنويريون السعوديون وحدهم، إنما سرت الصَّحوة، بحصول الإسلام السِّياسي، على إمكانية التَّأثير والحكم بالمنطقة.
نحت الصَّديق المزيني عنوان كتابه مِن بيت الجاهليّ عمرو البارقيّ، وقيل لغيره:«فألقت عصاها واستقرت بها النَّوى/كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر». أمَّا عنوان المقال فليس اختراعي، بل اختراع صحويّ، كان يؤذي الأكاديمي باسم «الخفاش الأسود»، واكتشف المزيني أنَّه إمام المسجد الذي كان يُصلي فيه، فأفرد له فصلاً!