بعد احتلال دام عشرين عاماً، رحلت أميركا عن أفغانستان، في تجسيد لأكبر إخفاق واجهته الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين. ولا يزال الأميركيون يفكرون في كيف أنفقوا أكثر من تريليوني دولار على حكومة لم تصمد أياماً في مواجهة "طالبان"، وكانوا مضطرين مجدداً لانسحاب فوضوي ومذلٍ في الأيام الأخيرة من آب (أغسطس) من العام الماضي، ومشهد مواطنين أفغان يتعلقون بدواليب طائرات النقل العسكرية الأميركية وهي تغادر مطار كابول على عجل، في مشهد لا يضاهيه إلا تعلق فييتناميين جنوبيين بالمروحية التي كانت تقلع من على سطح السفارة الأميركية في سايغون عام 1975.


مر عام على الانسحاب الأميركي من أفغانستان وعلى العودة الثانية لحركة "طالبان" إلى الحكم. وفي هذه السنة تبنّت إدارة الرئيس جو بايدن سياسة العزل وممارسة الضغوط على الحركة كي تفي بشروط التطبيع وهي: تشكيل حكومة شاملة والانفتاح على قيادات من النظام السابق الذي كان مدعوماً من الغرب، وعدم التراجع عن المكتسبات التي حققتها المرأة في الأعوام العشرين الماضية، لا سيما الحق في التعليم والدخول إلى الوظائف، فضلاً عن عدم تحويل أفغانستان ملاذاً للجماعات الجهادية خصوصاً تنظيمات مثل "القاعدة" و"الدولة الإسلامية" (داعش).

خلال عام من حكم "طالبان"، لم تفِ الحركة بأي من هذه الشروط. وبالنتيجة، أبقت إدارة بايدن نحو 7 مليارات دولار من الأصول الأفغانية محتجزة في المصارف الأميركية، تستخدمها كرافعة للضغط على "طالبان"، من أجل تلبية المطالب الأميركية. لكن في هذه الأثناء يستمر تردي الاقتصاد الأفغاني، ويدفع المواطن الأفغاني العادي ثمن الخلاف بين واشنطن و"طالبان"، سواء على صعيد تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش، أو لجهة الشعور بالأمان الاجتماعي، وتالياً البقاء في دوامة التفتيش عن الوسائل التي تمكنه من الفرار من البلاد.

حتى الآن، لا تبدو أفغانستان مكاناً قابلاً للعيش. كما أن لا ضمانات بأن الضغوط الأميركية لن تؤدي إلى ردود فعل عكسية، في ما يتعلق بالعلاقة بين "طالبان" والتنظيمات الجهادية. وعثور الولايات المتحدة على زعيم "القاعدة" أيمن الظواهري في حي راقٍ في كابول وتصفيته بواسطة صاروخ أطلقته مسيّرة أميركية في وقت سابق من الشهر الجاري، كان بمثابة تحذير لما يمكن أن تتطور إليه العلاقة بين "طالبان" أو بعض أجنحة الحركة المتشددة والتنظيمات الجهادية. ولا يأخذ المسؤولون الأميركيون رواية "طالبان"، عن عدم علمها بوجود الظواهري في العاصمة الأفغانية، على محمل الجد.

وإذا كانت الولايات المتحدة قد انسحبت عسكرياً من أفغانستان لأنها تريد وضع حد "للحروب التي لا تنتهي"، فإن ما تستطيع أميركا تحمله، هو العودة بالوضع الأفغاني إلى مرحلة التسعينات من القرن الماضي، التي قادت إلى هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 على نيويورك وواشنطن.

فهل السياسة الأميركية المتبعة حالياً في أفغانستان قادرة على الحؤول دون تكرار 11 أيلول (سبتمبر) جديدة؟ كل التساؤلات في أوساط المعلقين الغربيين تتمحور حول هذا السؤال. وكثيرون يخشون أن يقود الابتعاد الأميركي عن أفغانستان على غرار ما حصل في تسعينات القرن العشرين، إلى النتائج ذاتها.

والضغوط الإقتصادية على "طالبان"، قد يدفع بها إلى مد جسور التعاون مع قوى إقليمية مناوئة للولايات المتحدة، مثل الصين وروسيا في وقت تشتد فيه المنافسة الدولية وتشهد أوروبا أخطر نزاع منذ الحرب العالمية الثانية، بينما تلوح نُذر مواجهة عسكرية بين الصين وأميركا حول تايوان في آسيا.

ومهما يكن من أمر، فإن إدارة بايدن بتركيزها على عزل "طالبان"، لا تفعل شيئاً سوى زيادة معاناة الأفغان، اقتصادياً واجتماعياً. والفشل الذي صادفته السياسة الأميركية في الأعوام العشرين الأخيرة، لن تعوّضه سياسة حالية قصيرة النظر، ولن تؤدي إلى تقوية شوكة الحركة المتشددة.