المتحدث باسم الخارجية الأميركية نيد برايس قال بصريح العبارة حول إمكانية إبرام الاتفاق النووي رغم المطالب التي تضيفها إيران: «لا نتعامل من خلال وجهة نظر متفائلة أو متشائمة، لأن هذا هو التحدي الأكبر للسياسة الخارجية لأمننا القومي وللأمن الجماعي للمجتمع الدولي والتزامنا بألا تحصل إيران على سلاح نووي... وأوضحنا أن تصنيفات التنظيمات الإرهابية الأجنبية والعقوبات الأخرى المفروضة خارجة عن الاتفاق». ليس من السهل دحض سياسة الإدارة الأميركية أو وجهة نظرها بشأن أهمية العودة إلى الاتفاق وضرورتها، على الرغم من أن الحجج المناهضة لها والأضرار الجانبية المتأتية عن إحيائه بصيغة سنة 2015 لا تعد ولا تحصى.

حتى كتابة هذه السطور، تحول الضبابية دون ترجيح كفة التشاؤم أو التفاؤل، ولم تُبدد خشية المناهضين للاتفاق على الرغم من المبررات التي تسوقها إدارة جو بايدن ويتصدرها من دون منازع تصميم واشنطن على منع إيران من امتلاك سلاح نووي وتوسع الانتشار النووي في المنطقة جرّاء ذلك. يضاف إلى ذلك تعهده إبان حملته الرئاسية بكسر قرار دونالد ترمب بالخروج من الاتفاق، لا سيما أن الديمقراطيين على مشارف الانتخابات النصفية وكل سياسة دولية في واشنطن تتحول في آخر المطاف إلى سياسة داخلية. طبعاً الوعد الانتخابي يخفت أمام هول المتغيّرات التي تأتت عن الحرب الأوكرانية، وبعضها يصب في مصلحة إيران، منها ارتفاع أسعار النفط واستعماله من قبل روسيا للضغط على حلفاء واشنطن الأوروبيين وإضعاف وحدتهم، وتحفز التبعات الاقتصادية والاجتماعية هذه أوروبا على التعجيل بالتوصل إلى الاتفاق ما يغلّب المصلحة الأوروبية على المصلحة الأميركية الصافية.
يبقى أيضاً تقرّب روسيا والصين من إيران، واعتقاد الإدارة الأميركية أن التسوية مع طهران تستميلها وقد تلجم أو تحد اندفاعة بكين وموسكو نحوها. ومع أن الإدارة غير مقتنعة تماماً بهذه النتيجة، فهي تفضل الخيار الأقل سوءاً وهو مسايرة إيران، على تفلّت موسكو وبكين في أكثر من مكان، ووقف الابتزاز في موضوعي توفير الطاقة وأسعارها ونتائجهما المكلفة.
فيما يخص الشرق الأوسط، تعد واشنطن أن من شأن العودة إلى الاتفاق تعزيز مسيرة التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، لا سيما تلك المتوجسة، وعن حق، من ممارسات إيران وعبثها في شؤون دول عدة في الإقليم، والمرشحة للتوسع بعد رفع بعض من العقوبات عنها. إلى كل ذلك، وعلى الرغم من إصرار الجمهوريين في رفض الرجوع إلى الاتفاق، ليست لديهم خطة بديلة باستثناء العقوبات القصوى التي تبين أن إيران تمكنت من التعايش معها بفضل دعم موسكو وبكين وغيرهما من الدول التي لم تمتنع عن شراء النفط الإيراني كالهند. وفي الحجج الأميركية يبقى أخيراً القول إن إيران ليست في رأس جدول الأولويات الأميركية، وبخاصة عند مقارنتها مع تحديات روسيا والصين والاقتصاد وغيرها من الشؤون.
في المقلب الآخر، من الطبيعي ألا تنظر واشنطن إلى إيران بالعدسات العربية والإسرائيلية وتتصرف بما تراه يصب في المصلحة الأميركية. هذا الأمر يبرر مخاوف حلفاء واشنطن في المنطقة كما التساؤل المشروع عن أسباب الهرولة إلى الاتفاق في هذا الوقت بالذات، وهي على بينة من إمعان إيران في ممارساتها العدائية، علاوة على التسليم بتخلي واشنطن عن إدراج أنشطة إيران عبر حلفائها المحليين المزعزعة لاستقرار دول بالمنطقة في الاتفاق العتيد إلى مسألة الصواريخ الباليستية وغيرها. وتجدر الإشارة أيضاً إلى لعب طهران على وتر رجحان هزيمة الديمقراطيين في الانتخابات النصفية، ما يعيق من قدرات الرئيس خلال السنتين المتبقيتين من ولايته. إلى ذلك المدة المتبقية لمفاعيل الاتفاق أقل من عقد، وبعدها تتحرر من قيوده وتعود قادرة على التخصيب متى شاءت والحصول على قدرات نووية عسكرية.
القصة لا تقتصر على الأدوار الإيرانية في دول المنطقة بل تتعداها. فحتى في زمن المفاوضات، اتهمت مؤخراً وزارة العدل الأميركية المواطن الإيراني المقيم في طهران، شهرام بورصافي، بالتخطيط لقتل مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون، وعرض مليون دولار لمؤامرة أخرى تستهدف وزير الخارجية السابق مايك بومبيو. وعرّف مكتب التحقيقات الفيدرالي بورصافي بأنه «عضو في (الحرس الثوري) الإيراني». ووفق دراسة لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى أعدها ماثيو ليفيت، تتمتع إيران بسجل حافل في تنفيذ عمليات الاغتيال والاختطاف والمراقبة التي تستهدف المصالح الأميركية والغربية الأخرى في جميع أنحاء العالم، وصلت إلى 105 عمليات على مدى 43 عاماً منذ الثورة الإيرانية عام 1979. والأرقام التي تقتصر على العقد الماضي تظهر أن من بين 62 عملية، استهدفت 23 منها منشقين إيرانيين، و28 استهدفت يهوداً أو إسرائيليين، و20 عملية استهدفت دبلوماسيين، و14 استهدفت مصالح غربية على وجه التحديد، و6 استهدفت مصالح دول الخليج العربي. وقعت هذه الأحداث في جميع أنحاء العالم بما في ذلك 18 موقعاً بالولايات المتحدة. وبحسب المصدر نفسه، صرح مسؤول أميركي رفيع المستوى في مكافحة الإرهاب عام 1997، بأن الحكومة الأميركية لديها «معلومات قوية» تؤكد تقييمها أن إيران مسؤولة عن نحو «50 جريمة قتل للمعارضين السياسيين وغيرهم في الخارج» منذ عام 1990.
وكما الحال في مؤامرة بولتون، كان العملاء على اتصال منتظم بمسؤولي «الحرس الثوري» الإيراني، ما يؤكد أن العمليات ليست فردية بل مؤامرات يديرها مسؤولون إيرانيون. وهي استمرت حتى في خضم المفاوضات حول إمكانية العودة إلى الاتفاق، ومن غير المستبعد أن تكون محاولة قتل سلمان رشدي في نيويورك وتوقيتها في السياق نفسه. وجرى الأمر نفسه أثناء وبعد المفاوضات الأصلية في ظل إدارة باراك أوباما.
المضحك المبكي في موقف واشنطن أنها ترفض مطلب طهران إزالة «الحرس الثوري» من لوائح الإرهاب وتعدّه انتصاراً، بينما تقدم على صفقة معها وهي تعرف أن «الحرس الثوري» عينه هو الجهة الأكثر نفوذاً وتأثيراً في صناعة القرار الإيراني!
لماذا تنخرط إيران في مثل هذه الأنشطة المخربة حتى في أوقات المفاوضات؟ الأرجح أن مسؤوليها يعتقدون أن بإمكانهم القيام بذلك من دون تكلفة تذكر أو محاسبة وعقاب. وتجدر الملاحظة بشأن محاولات الاغتيال الأخيرة ما هي إلا نتيجة لقراءة إيرانية لردود الفعل الأميركية والغربية بعامة تجاه عمليات فلاديمير بوتين العسكرية في جورجيا والقرم وسوريا التي مرت بلا عقوبات حتى وصل إلى اجتياح أوكرانيا، تفسّر تفكير وممارسات حكام طهران.
يصعب كثيراً الدفاع بعد هذه المعطيات عن موقف الإدارة من النظام الإيراني، كيف إذا أضفنا إليها ما سبق لكثير من المفكرين والسياسيين الأميركيين والعرب ترداده على مسامعهم بلا كلل، وهو ما ذكّر به كريم سادجادبور مؤخراً في هذه الصحيفة أنه تحت قيادة المرشد علي خامنئي «أصبحت معاداة أميركا مركزية للهوية الثورية لإيران، فكلما كانت الولايات المتحدة أكثر التزاماً بالدبلوماسية، تراجعت إيران الاستعجال لتقديم تنازلات. وحتى لو تم إحياء الاتفاق النووي، فإن نظرة طهران للعالم ستستمر».
باختصار، لا الدبلوماسية ناجعة ولا العقوبات فعالة والحرب مستبعدة في هذه الظروف المعقدة والمتشابكة. بعض من حلفاء واشنطن يتخبطون في مواقف وسياسات ملتبسة مثل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وغيره العائد إلى كل من سوريا بطلب روسي، وإسرائيل تترقب ما ستؤول إليه مفاوضات فيينا وتبعاتها ولم توقف محاولاتها المكثفة الحد من الاندفاعة الأميركية.
المؤسف أمران؛ الأول أن المناورة الإيرانية تفوقت على واشنطن والغرب بعامة وحققت كل مبتغاها بالتلويح بالخطر النووي، والثاني أن أحوال المنطقة على حالها من الاضطراب والقلق وعدم الاستقرار مع أو من دون العودة إلى اتفاق أوباما المشؤوم، كون أكسجين نظام ملالي طهران هو العزلة والأزمات.
هل يفعلها بايدن ويلعب دور «بابا نويل» إنما في عز حر أغسطس (آب) اللهاب ويهدي إيران هذه الصفقة؟