جلس الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ينتظر عشرين سنة، ومن بعدها اكتشف أن عليه أن يعيد الاعتبار إلى نظرية فيلسوف الحزب الحاكم في أنقرة!

أما الحزب فهو حزب العدالة والتنمية الذي يحكم إردوغان من خلاله بدءاً من 2002، وأما فيلسوف الحزب فهو أحمد داود أوغلو، الذي كان أقرب الناس إلى الرئيس في بدء مجيء «العدالة والتنمية» إلى السلطة، ثم سرعان ما فرقت بينهما تصاريف الأيام والسياسة!

كان داود أوغلو هو مفكر الحزب، وهو فيلسوفه، وهو صاحب النظرية فيه، وكانت نظريته ترفع شعار: صفر مشاكل مع الجيران.

وكان إردوغان يقتنع بها في تلك الأيام، وكان يتبناها، وكان يرى أنها تسعفه في توفير الطاقة الكافية لطموحاته السياسية في الإقليم، وكان بقاء صاحب النظرية إلى جواره، مفكراً في مرحلة أولى، ووزيراً للخارجية في مرحلة ثانية، ورئيساً للحكومة في مرحلة ثالثة، يقول إن هذه النظرية هي التي توجه سياسات تركيا فيما حولها، وهي التي تحكم ما بين أنقرة وما بين عواصم المنطقة من علاقات.

ولكن عين الحسود يبدو أنها أصابت ما بين الرجلين في لحظة، فاستيقظ الاثنان ذات صباح، فإذا كل واحد منهما في طريق، وكأن الشاعر إبراهيم ناجي كان يعنيهما في قصيدته «الأطلال» التي شدت بها أم كلثوم في خمسينات القرن العشرين.

ولم يفترق الرجلان وفقط، ولكن صاحب النظرية ذهب إلى تأسيس حزب المستقبل ينافس به الحزب الحاكم، وقال إنه سينافس الرئيس في السباق الرئاسي الذي سينطلق منتصف السنة المقبلة، ولا بد أن هذا التوجه لدى فيلسوف الحزب السابق يؤرق إردوغان كثيراً، ولا بد أنه يتمنى بينه وبين نفسه لو احتفظ بالفيلسوف إلى جواره ولم يفرط فيه قبل ستة أعوام من الآن!

ولكنه لم يشأ أن يضيع وقته في الندم على ما كان، وانتهى إلى أن أوغلو إذا لم يكن حاضراً إلى جانبه في الحزب وفي القصر، فليس أقل من أن تكون نظريته حاضرة يعمل بها ويتخذها طريقاً إلى سباق الرئاسة الذي سينعقد بعد سنة.
لقد تبين له بعد أن هجر نظرية فيلسوف «العدالة والتنمية» طويلاً، أنها يمكن أن تكون رافعة له على المستوى الاقتصادي، الذي يشهد معاناه للعُملة الوطنية كما لم يحدث أن عانت من قبل، ثم على المستوى السياسي الذي يقول إن مركز إردوغان الانتخابي يمكن أن يكون حرجاً في السباق المقبل.

ولم تكن عملية تبادل السفراء رسمياً بين تركيا وإسرائيل في 17 من هذا الشهر، هي آخر الخطوات في سعي إردوغان لإحياء نظرية أوغلو، ولن تكون آخر خطوة بالتأكيد.
ففي هذا اليوم جرى تصفير المشاكل بين البلدين، وبعدها بساعات جرى اتصال تليفوني بين الرئيس التركي، وبين يائير لبيد، رئيس وزراء إسرائيل.
وما بين البلدين من مشكلات كان متراكماً ومعقداً، وكان مرشحاً لأن يزداد تراكماً وتعقيداً، وكان أحد الأسباب وربما أقواها قطاع غزة وما تمارسه تل أبيب إزاء الفلسطينيين فيه، ولكن نظرية التصفير بدت أنها قادرة على أن تفوت في الصخر، وبدت أنها أقوى من أن تعترضها مشكلات القطاع.

وما كادت النظرية تعبر المحطة الإسرائيلية، حتى خرج الرئيس التركي يقول إنه يتطلع إلى المحطة التالية وإن هذه المحطة هي القاهرة، ولم يكن هذا جديداً على كل حال؛ لأن له بدايات تعود إلى سنة مضت. لقد حدث هذا ويحدث رغم أن مصر واجهت في السنين الماضية هجوماً سياسياً تركياً متواصلاً، وهو هجوم لم يكن إردوغان يتوقف عنه حتى يعود إليه، منذ أن سقط حكم «الإخوان» في المحروسة خلال صيف 2013.
وقد بدا الرجل متعجلاً وهو يتطلع إلى محطته التالية، فقال إن الشعب المصري شعب شقيق، وإن تركيا يجب أن تذهب إليه وتصافحه في أقرب وقت.

ومن قبل كان وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو، قد أبدى رغبته في أن تكون الوتيرة التي تمشي بها عملية إعادة العلاقات بين الدولتين أسرع مما هي عليه، وأن تغادر البطء الذي يميزها في قطع الخطوات.
ولم تكن القاهرة متعجلة في المقابل، ولكنها كانت ترغب في وضع أسس موضوعية لاستئناف العلاقات وتبادل السفراء، وكانت تضع مطالب لها أمام صانع القرار التركي، وحول هذه المطالب انعقدت لقاءات في العاصمتين على مستوى نائب وزير الخارجية فيهما، وفي نهاية كل لقاء قيل كلام عن توجه إلى عقد لقاءات على مستوى أعلى في المرات المقبلة.
ولكن الواضح أن القاهرة لا ترى أن أنقرة استجابت للمطالب، أو أنها قدمت من جانبها ما يكفي لانتقال الحوار بين البلدين إلى مرحلة أعلى وتالية!

ومن الطريقة التي يفكر بها الرئيس التركي ويتحرك على أساسها، تشعر أنه يحاول تعويض ما فاته بكل ما عنده من أدوات، وأنه اكتشف أن ابتعاده عن نظرية فيلسوف الحزب، لم يكن ابتعاداً في محله، ولم يكن هو السياسة الصائبة التي كان عليه أن ينتهجها مع دول الجوار.
ومن قبل كان قد ذهب إلى أبوظبي ومن بعدها كان في الرياض، وفي المرتين كان يطبّق نظرية تصفير المشكلات مع العاصمتين كما يقول كتاب التصفير لصاحبه داود أغلو.

وقد بلغت سرعته في هذه الطريق إلى حد أنه لم يشأ أن يستثني سوريا على حدوده الجنوبية من رياح النظرية، فتكلم عن شعب سوري شقيق أيضاً، وعن تصفير للمشكلات مع دمشق بطريقة غير مسبوقة في علاقته بها، ولم يستبعد الذين تابعوا لهجته الطارئة أن يضمه لقاء قريب مع الرئيس بشار الأسد، وأن تعود العلاقات التركية - السورية إلى يوم كانت فيه علاقات طبيعية بين بلدين لهما حدود مشتركة.

ويبدو الرجل وكأنه في سباق مع نفسه من أبوظبي، إلى الرياض، إلى تل أبيب، إلى القاهرة، إلى دمشق، أو كأنه يشعر بأن حظه في صندوق الاقتراع بعد سنة من الآن، مرهون بأن ينتهي من عملية التصفير مع العواصم الخمس، ومع غيرها أيضاً مما قد يدعوه الأمر إلى أن يدق بابها.

السؤال هنا يظل عما إذا كان يفعل هذا عن إيمان بما كان فيلسوف الحزب قد نصح وقال، أم أن المسألة كلها هي مسألة براغماتية عملية مجردة من جانبه؟!... والسؤال هو كذلك عما إذا كان هذا التوجه السياسي الخارجي عنده، تعبيراً عن استراتيجية طويلة المدى بطبيعتها لديه، أم أنه تكتيك مرتبط بمرحلة سياسية في أجندته لن يلبث حتى يتغير ويتبدل؟!
السؤال له دواعيه ومبرراته؛ لأن البراغماتية كانت هي المدرسة التي انتمى إليها الرجل وهو يطرق باب الاتحاد الأوروبي، طالباً العضوية فيه مرة، وداعياً في مرة ثانية إلى حصول بلاده على مساعدات من الاتحاد، إذا شاءت الدول الأعضاء فيه أن تحتفظ تركيا باللاجئين السوريين وغير السوريين على أرضها.

ولكن الفارق معه هذه المرة، أنه دق ويدق أبواب العواصم الخمس في المنطقة، بينما وراءه خبرة في الحكم بلغت عقدين من الزمان، وبكل ما يمكن أن يكون قد اكتسب خلالهما من تجارب تراكمت في قصر الحكم بعضها فوق بعض.
ولا بد أن أحمد داود أوغلو يراقب الرئاسة التركية، وهي تتحرك على أساس نظرية هو صاحبها، بينما لسان حاله يتساءل عن حقوق الملكية الفكرية التي تخصه، باعتباره صاحب نظرية تتساقط ثمارها أمامه على مائدة ليست مائدته وليس مدعواً إليها!