مثال لا أمل تكراره يوضح أهمية الرعاية الصحية الأولية، ذلك هو قصة طالب الطب الذي كان يمشي مع أستاذه على جانب النهر، وفي هذه الأثناء رأى شخصاً يكاد يغرق في النهر فهرع إليه طالب الطب وأنقذه، وماهي إلا لحظات ورأى شخصاً ثانياً ثم ثالثاً، واستمر في إنقاذهم حتى تكاثرت الأعداد ولم يستطع الاستمرار، وعاد إلى أستاذه منهكاً وفي قرارة نفسه أنه سيسمع الثناء، من أستاذه، لكن الأستاذ قال له: ما قمت به جهد تشكر عليه، لكنه ليس أفضل الإجراءات للتعامل مع تلك الحالة، الأفضل أن تبحث عن الشخص الذي يلقي بكل هؤلاء إلى النهر وتوقفه بدل محاولة الاستمرار في إنقاذ من هم داخل النهر الجارف.

مثال يوضح أن الرعاية الصحية الأولية هي الأكثر كفاءة، لمكافحة الأمراض قبل حدوثها بمنع مسبباتها، وهي الأقل تكلفة، ذلك أنها تنمع حدوث المرض بمكافحة مسبباته، أو اكتشافه في مراحله الأولية مما يسهل علاجه بأقل التكاليف، وتخفيف معاناة المريض.

في أكثر الدول تذهب معظم الأموال المخصصة للصحة على علاج الأمراض المزمنة والمستعصية، ومن أجلها تبنى المستشفيات الكبيرة وتجلب المعدات الكثيرة والمكلفة، وتستقطب الكفاءات المتخصصة من مختلف دول العالم. بينما لا يصرف إلا القليل على الرعاية الصحية الأولية التي هي حجر الأساس لكل نظام صحي ناجح. وعن طريقها يمكن تفادي معظم الأمراض المزمنة باتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع حدوثها. فأكثر الأمراض يكون الإنسان هو السبب في حدوثها. خذ على سبيل المثال مرض السرطان، نجد التدخين يشكل ما نسبته 40 % من مسبباته، إضافة إلى أضرار التدخين على القلب والشرايين. ومثال آخر هو داء السمنة وما يسبب من أمراض وإعاقات. مع أن كل هذه المسببات يمكن مكافحتها في وقت مبكر، وقبل أن تصبح عادة مضرة ومتأصلة يصعب التخلص منها، وقبل أن تصبح الأمراض المصاحبة لها في مراحل متقدمة.

الرعاية الصحية الأولية هي المهمة الأولى لوزارة الصحة، وكل ما كانت في السنوات الأولى من عمر الإنسان كانت أكثر فعالية وتعطي نتائج ممتازة، وهذا يحتم أن تكون الرعاية الصحية الأولية مشتركة مع وزارة التعليم لتطبيقها على طلبة المدارس، ومنذ المراحل الأولى وحتى التعليم العالي باتخاذ الخطوات الآتية:

أولاً. التثقيف الصحي من أهم ما يجب أن تقوم به المدارس، سواء للمعلمين أو الطلبة. ومن المهم وجود مقرر للصحة يوضح أهمية الصحة البدنية والنفسية، ويهدف إلى تزويد الطلبة بكل العادات والممارسات التي تزيدهم قوة وتجنبهم العادات المضرة.

ثانياً. جعل الرياضة البدنية التي يحبها الطلبة والطالبات من الممارسات اليومية في المدارس لبناء أجسام سليمة، وزرع عادات تبقى معهم مدى الحياة، ومن المهم تعميم الأنشطة التي تتطلب جهداً بدنياً وتبني ثقة بالنفس كالكشافة والمغامرات المدروسة كالعيش في الصحراء وتعلم رياضات جوية وبحرية مختلفة.

ثالثا. التعاون الوثيق بين وزارتي التعليم والصحة لإيجاد برامج صحية للكشف على الطلبة وتقديم العلاج اللازم لهم، والكشف عليهم لمعرفة ما قد يعوق تحصيلهم العلمي كضعف السمع وقصر النظر وما إلى ذلك. وتثقيفهم في مجال التغذية، والعناية الصحية اليومية كتنظيف الأسنان وما شابه ذلك، إضافة إلى وجود ممرضة وعيادة في كل مدرسة تقدم الاحتياجات اليومية للطلبة.

رابعاً. جعل المدارس مهيئة صحياً، بتحسين البيئة داخل المدرسة وفي محيطها بزراعة الأشجار، وإنشاء الملاعب وبرك السباحة والتي تخدم الطلبة والمعلمين على حد سواء.

خامساً. تقوية العلاقة بين المدرسة ومستوصف الحي، وبين المدرسة وأولياء الأمور. جعل المدارس جزر معزولة عن المجتمع لا يسهم في نشر الوعي الصحي، ويحرم المجتمع من تأثيرها الإيجابي.

الحكمة ضالة المؤمن، ولا شيء كالبدء من حيث انتهى الآخرون، ومنه الاستفادة من الدول الرائدة في هذا المجال. والنقاط السابقة ليست سوى رؤوس أقلام لما يمكن أن يتم في المدارس لبناء جيل قوي بصحته البدنية والعقلية. كما أن التعاون بين وزارتي الصحة والتعليم سيثمر عن نتائج ممتازة في مجال الصحة على كل المستويات، وسيجني المواطن والاقتصاد نتائج هذه الجهود في مجال الصحة العامة، وسيؤسس لنظام صحي مستدام وغير مكلف، مقارنة بما هو عليه اليوم من الاعتماد على معالجة الأمراض بعد استفحالها