جملة مرعبة بدأت تنتشر في العام 2022، لكنها هذه المرة ليست لكل دول العالم، كما حدث في فيروس كورونا العام 2020، بل هي محددة أكثر، لدول الاتحاد الأوروبي: «الشتاء آت..!»


يرى المحللون الأوروبيون أن قطع إمدادات الغاز الروسي أو خفضها إلى درجة متدنية سوف يجعل شتاء هذا العام صعباً ومكلفاً للغاية على الدول الأوروبية التي تعتمد بشكل كلي أو شبه كلي على الغاز الروسي، مع التحذير على أن التصريحات والبيانات الرسمية من الحكومات الأوروبية التي ترسل رسائل اطمئنان داخلية ورسائل القدرة على المواجهة إلى موسكو لإظهار التماسك والشدة، قد لا تكون كافية على أرض الواقع، فالكلام لن ينتج غازاً أو فحماً في نهاية المطاف.


سنتحدث بالأرقام، فالمفوضية الأوروبية أعلنت مؤخراً أن احتياطيات الغاز وصلت نحو 80% في الاتحاد الأوروبي، أيّ أن تخزين الغاز قد بدأ مبكراً، حيث كان من المفترض أن تبلغ تلك الاحتياطيات هذه الدرجة في نوفمبر 2022! وحسب أرقام العام الماضي، قبل أزمة الحرب الروسية الأوكرانية، فقد تم تخزين نحو 858 تيرواط ساعة، بما يعادل أقل من 75% في التوقيت ذاته، لكن ما لم يتم حسابه، في التصريحات المطمئنة، أن تدفقات الغاز الروسي عبر خط «نورد ستريم 1» إلى أوروبا، لم تنقطع بين نوفمبر 2021 وفبراير 2022، لذلك كان الشتاء الأوروبي دافئاً وغير مكلف، ولكن الانقطاعات والتوقف هذا العام، سوف يجعل الشتاء في أوروبا، واعتباراً من نوفمبر 2022 مرعباً جداً.


بعض المحللين يقرأ ما يحدث بطريقة مختلفة، يقولون إن الولايات المتحدة تمكنت من ضرب عدة عصافير بحجر واحد، فهي لا تريد فقط ممارسة الضغوطات الشديدة على روسيا، وفرض العقوبات عليها لإنهاكها، بل هناك أهداف أخرى تتضمن أيضاً إنهاك الاقتصاد الأوروبي، فمن غير المعقول أن هذه السيناريوهات لم تكن محسوبة بدقة متناهية منذ أعلنت روسيا حملتها العسكرية في فبراير 2022، فالروس تحضروا جيداً لكافة الاحتمالات، وسواء من خلال الدراسات الاستراتيجية المعمقة، أو العمل الاستخباري، فقد عرف الساسة في روسيا وأوروبا وأميركا، ما ستؤول إليه الوقائع والأحداث، ودراسة ما يسمى دائماً: بـ «أسوأ الاحتمالات»، بالطبع هذا ليس أسوأ الاحتمالات بعد، بل هو احتمال معقول، فكيف لو تحولت فجأة إلى حرب نووية؟!؟ أليس هذا هو أسوأ احتمال على الإطلاق؟


أوروبا لا يمكنها أن تجاهر بذلك، أي لا يمكنها أن تدّعي أن الولايات المتحدة قد جرجرتها إلى احتمال قاتم ومضنٍ، يستهلك أوروبا وشعوبها، بالغاز والطاقة واللاجئين والغذاء والتوتر والعبث بالاقتصاد واليورو لصالح الدولار الأميركي، فمصيدة «حلف الناتو» من جهة، ومصيدة توسع المطامع الروسية من جهة أخرى، تبدو أكثر ملاءمة للوقوع بها، ما يبرر التعاطف الأوروبي مع القضية الأوكرانية، وحتى الشعوب الأوروبية، لا يمكنها أن تعارض ممارسة الضغوطات على روسيا، حتى لو كان الشتاء قارصاً بصورة فظيعة.


بين المطرقة والسندان، وقعت القارة العجوز في ما لا يحمد عقباه، وبالمقابل فإن «الكعكة الصغيرة» التي قد تمنحها الولايات المتحدة لبعض دول الاتحاد الأوروبي بتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، قد لا تكون كافية لتهدئة شعوب أوروبا التي خرجت منهكة تماماً، اجتماعياً واقتصادياً، من جائحة كورونا، وتواجه بصعوبة بالغة أزمة تضخم عالمية، وتزايد شدة الاحتباس الحراري، إضافة إلى معاناتها السابقة في الضرائب وغلاء المعيشة.


وجهة نظري، وعلى عكس ما يرى كثيرون، أن روسيا قد وضعت في حسبانها حرباً قد تطول أكثر من خمس سنوات، وأن الغاز الروسي ليس سوى أحد أسلحتها الكثيرة التي تخبئها في حال المزيد من التصعيد، وبما أن التلميحات الروسية الأخيرة، بشأن اقتراب الولايات المتحدة كثيراً من منطقة المواجهة المباشرة، من خلال الدعم العسكري والمادي واللوجستي لأوكرانيا، فمعنى ذلك، أن الخطوة القادمة، بين الطرفين، روسيا والولايات المتحدة، هو المزيد من «التصعيد الأخير»، الذي سنرى بعده بفترة وجيزة جداً، إما حرباً عالمية ثالثة تسحق الأخضر واليابس، وإما انفراجاً يفتح الباب لمفاوضات مباشرة، تعيد تصحيح المسألة برمتها.


تواجه الولايات المتحدة أزمات كبرى هذه الأيام، داخلية وخارجية، وهي على أكثر من منعطف تاريخي، ولا أعتقد أن هناك ثمة خروجاً آمناً تماماً، سواء من الرفض الإسرائيلي للاتفاق النووي، أو استراتيجيات روسيا العسكرية طويلة المدى، أو الأزمات الداخلية الأخرى، ولا ينقصها في هذا الوقت، أن يحمل الشتاء الأوروبي القارص، المزيد من الأزمات..!