رغم تأسيس منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي في عام 1996 بوصفها تكتلاً إقليمياً من خمس دول، هي الصين وكازاخستان وقرغيزستان وروسيا وطاجيكستان، فإنها ظلت منظمة شبه مجهولة على الصعيد الدولي. وعقدت اجتماعات محدودة ناقشت قضايا إقليمية تهم الدول المؤسسة وعلاقاتها الخارجية، إلا أن عام 2018 شهد أول مناورات عسكرية لها بعد انضمام الهند وباكستان. ونفذت الدول السبع مناورات لمحاربة الإرهاب والتطرف ومواجهة الحركات الانفصالية، كما قرأنا في صحف ذلك العام.

الآن بدأ زحف دولي غير إقليمي للانضمام إلى المنظمة وتحولها إلى نشاط سياسي شرقي، أقرب ما يكون إلى (حلف) أكثر منه اقتصادياً كما هو الحال في منظمة «أوبك». وقد عُقدت القمة في سمرقند في يومي 15 و16 سبتمبر (أيلول) الحالي، وألقى الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينغ كلمتين أكدا فيهما حاجة الدول إلى «عالم عادل وديمقراطي ومتعدد الأقطاب» إلا أن هذا الشعار من سلالة الفن التجريدي الذي تحتاج أمامه إلى من يفسر لك: ما العالم العادل؟ وأين يكون؟ وكيف يكون ديمقراطياً إذا كانت إيران أو إسرائيل عضوين فيه؟ وماذا عن عالم متعدد الأقطاب من «الحرس الثوري» الإيراني إلى طالبان الأفغانية إلى الميليشيات الشيشانية؟ وإذا انتبهنا إلى أن منظمة شنغهاي تمثل نصف سكان العالم، فعلينا أن نعترف بأن هناك «خللاً» كبيراً في منظمة الأمم المتحدة، دفع نحو أربعة مليارات نسمة إلى السفر من نيويورك إلى سمرقند لحل مشاكلهم السياسية والاقتصادية والأمنية. والمسافة بين المدينتين أكثر من ستة آلاف كيلومتر.

من حق الرئيس الروسي أن يستغل أي فرصة مهما كانت صغيرة لكسب دول أخرى إلى جانبه في حربه على أوكرانيا. وكان الأفضل أن يختار وسيطاً مقبولاً وحكيماً لإنهاء الحرب التي كادت تصبح نووية، وهو اجتمع أكثر من مرة مع الرئيس الصيني في هذا المؤتمر، وكان مفيداً أن يسمع منه التجربة الصينية لتبريد كثير من المشاكل الساخنة التي واجهت الرئيس شي ومنها ميناء هونغ كونغ الذي انتقل بسلاسة من الإدارة البريطانية إلى الإدارة الصينية بعد احتلال طويل، وكذلك نجح في «تبريد» المواجهة الصينية - الأميركية في تايوان التي كادت تتحول إلى حرب عالمية ثالثة بسبب زيارة مسؤولة أميركية كبيرة دفعها مزاجها إلى زيارة الجزيرة في هذا التوقيت السيئ.

بعد 26 عاماً من تأسيس منظمة شنغهاي الخماسية أصبحت اليوم مفتوحة أمام من يريد، بداية من إيران إلى إسرائيل. وإذا كانت المنظمة قد منحت مبدئياً النظام الإيراني بطاقة العضوية، فإنها لم ترد على الطلب الإسرائيلي حتى ختام المؤتمر. لقد اقتضت الحرب الأوكرانية والملف النووي الإيراني وضعف البيت الأبيض وشلل مجلس الأمن بسبب الفيتو وعجز الجمعية العامة للأمم المتحدة عن اتخاذ أي قرار دولي مُلزم يمنع تكرار الغزو الأميركي - البريطاني العدواني للعراق في 2003، بالإضافة إلى فوضى في القرارات السياسية والاقتصادية الدولية حسب المصالح الذاتية لكل دولة، كل ذلك أدى إلى البحث عن تجمعات جديدة بدلاً من الوقت الضائع.

المراقب الذي تابع خطب رؤساء الدول المشاركة في منظمة شنغهاي على منصة سمرقند لاحظ أن التمنيات والأحلام والعواطف والمجاملات طغت على كلمات رؤساء الوفود، وبضمنها كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي استعرض شروطه وتصوراته باعتباره «عريس» المؤتمر. ولاحظ الجميع أن الهدف الأساسي لبوتين في أي اجتماع أو خطاب هو «تعدد الأقطاب» في إشارة واضحة إلى الانفراد الأميركي في صنع القرارات الدولية والعقوبات السياسية والاقتصادية، مع أننا لم نر في هذا المؤتمر أي أقطاب غير الرئيسين الروسي والصيني وهما من آيديولوجيا واحدة، وعباءة الرئيس الإيراني الذي بحث بلا جدوى عن دور وتأثير وأغطية للإرهاب الإيراني في منطقة الشرق الأوسط من العراق إلى اليمن مروراً بسوريا ولبنان ومياه الخليج العربي. لم يكن الرئيس الإيراني يبحث في المؤتمر عن شجرة الزيتون، لكنه كان يبحث عن مقعد بين الدول النووية.

من الطبيعي أن روسيا سعت في قمة أوزبكستان، وهي دولة غير ساحلية في آسيا الوسطى، إلى جذب العالم الإسلامي إلى منظمة شنغهاي على وقع اسم سمرقند المدينة التي فتحها القائد العربي المسلم قتيبة بن مسلم الباهلي في سنة 87 هـ – 705 م، ثم أعاد الباهلي فتحها مرة أخرى سنة 92 هـ – 710 م في عهد الخليفة الأموي العادل عمر بن عبد العزيز، ودخل الجيش الإسلامي المدينة بدون إنذار ولا دعوة ولا حرب. ومعظم سكان المدينة اليوم مسلمون من السنة الحنفيين وهم يتوزعون بين سمرقند وبخارى ويتميزون بالتسامح الديني الكبير سواء مع الشيعة أو الأديان الأخرى.

انفض المؤتمر بعد ليلتين وحمل المؤتمرون حقائبهم معلنين تحالفهم مع الرئيس الروسي من أجل «عالم عادل وديمقراطي متعدد الأقطاب» وهو شعار يحتاج إلى ترجمة فعلية لتعدد الدول المشاركة في المؤتمر. كان ظل الحرب الروسية في أوكرانيا يغطي مساحة القاعة الرئيسية، وكان هناك من يريد أن يسمع من بوتين شخصياً رغبته في السلام وإيقاف الحرب بعد سبعة أشهر من القصف البري والجوي والبحري. لم ترد أي جملة اعتراضية لوقف الحرب أو هدنة للتفاوض بشروط أو بغير شروط والدعوة إلى عودة اللاجئين والهاربين إلى مدنهم المدمرة. ما مسوغات عقد قمة سمرقند السياسية، قبل أن تكون اقتصادية، إذا لم يكن السلام هو الهدف؟ فهناك حروب بين عدد من الدول المشاركة في المؤتمر مثل الهند وباكستان، وقرغيزستان وطاجيكستان، وأرمينيا وأذربيجان. ولا نتحدث عن إيران وتدخلها السياسي والعسكري في دول الجوار.

أعود إلى التاريخ مرة أخرى، فليس لدينا الآن حاضر نتباهى به سواء في سوريا أو لبنان أو فلسطين أو العراق أو ليبيا أو السودان أو اليمن أو الصومال. ولذلك أرجع إلى عام 1966 حين شهدت العاصمة الأوزبكية طشقند مباحثات هندية - باكستانية لوقف الحرب بينهما بسبب مشكلة إقليم كشمير. وتم إيقاف الحرب فوراً بضغط، يا للمفارقة، من روسيا وأميركا بالإضافة إلى الأمم المتحدة في عز مجدها وأمنائها المتميزين. الآن روسيا وباكستان والهند ومعظم دول الاتحاد السوفياتي السابق في مؤتمر سمرقند، وبعضهم له مشاكل حدودية بين فترة وأخرى. وما دمنا في سيرة الهند فإن من الغريب أن نائب رئيس وزراء الهند في عام 1966 لال بهادور شاستري ترأس وفد بلاده إلى طشقند في محاولة لوقف الحرب الهندية الباكستانية، وأصيب بنوبة قلبية هناك، وخلفته أنديرا غاندي ابنة الزعيم الهندي الراحل جواهر لال نهرو وتم اغتيالها على يد أحد حراسها السيخ.

لولا صحيفة «الشرق الأوسط» لما علمنا أن الرئيس الروسي بوتين لم يحصل على دعم كامل على موقفه في الأزمة الأوكرانية خلال هذه القمة. وقد ذكر الرئيس الروسي أن هناك «انقساماً» مع نظيره الصيني شي جينبينغ حول هذه الحرب. وقال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي لبوتين: «الآن ليس وقت الحرب»، بينما دعا الرئيس التركي إردوغان إلى «وضع حد للحرب في أسرع وقت ممكن».

أن يجتمع رؤساء الدول بين فترة وأخرى يمكن أن يؤدي إلى اختراقات في الأزمات وحلول للمشاكل وتفتيت لنظرية «القطب الواحد» بشرط ألا يحمل أحد منهم بطاقة الفيتو في جيبه.