كان هناك خياران أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بعد التقدم الأخير للقوات الأوكرانية في مناطقها الشرقية واحتفاء القوى الغربية بهذه الانتصارات التي اضطرت القوات الروسية إلى التراجع: الاستسلام وإعلان الهزيمة والبحث عن وساطة تسمح بصيغة مقبولة لإعادة الجيش الروسي إلى حدود ما قبل 24 فبراير (شباط) الماضي، أو رفع السقف وحشد عدد أكبر من القوات في ساحة القتال، وصولاً إلى التهديد بالسلاح النووي لوضع حلفاء أوكرانيا في مواجهة خطر استثنائي، يتوقع بوتين أن يدفعهم إلى إعادة حساباتهم والتفكير في عواقب استمرار تسليح قوات أوكرانيا.

لا يعرف قاموس بوتين كلمة الاستسلام. لذلك كان التصعيد الكبير هو خياره الوحيد. تصعيد لخفض التصعيد، باللغة العسكرية، أو هرب إلى الأمام، ما دام الهرب إلى الوراء سوف يعني نهاية حكم رجل ونهاية موقع بلد على خريطة القوى الدولية. لم يكن ممكناً للرجل الذي ما زال يبكي على أطلال الاتحاد السوفياتي أن يسمح بإتاحة فرصة الانقضاض على روسيا وضرب موقعها على يد رجل في حجم فولوديمير زيلينسكي.
قيل وكُتب الكثير عن خطأ الحسابات الروسية منذ بداية اجتياح أوكرانيا. عن توقع سقوط كييف خلال ثلاثة أيام. عن «العملية العسكرية الخاصة» التي قال بوتين إنها لن تحتاج إلى اللجوء إلى عمليات تطوع إضافية أو إلى قوات احتياط. عن عدم استعداد الدول الغربية للدخول في عملية تسليح واسعة لأوكرانيا التي لا تعني الكثير لهذه الدول في الحسابات الاستراتيجية. قيل أيضاً إن مناطق لوهانسك ودونيتسك التي تشكل إقليم الدونباس، تستعد بلهفة لاستقبال الجيش الروسي. ويتبين اليوم حجم الخطأ في هذه التوقعات، ومدى انفصال قيادة الكرملين عن الواقع الحقيقي على الأرض.
منذ البداية كانت المغامرة الأوكرانية التي تخوضها روسيا استثنائية في حجمها وفيما يترتب عليها بالنسبة لموقع موسكو الدولي وعلاقتها بجوارها الأوروبي. ومع استمرار المغامرة يستمر اتخاذ القرارات الصعبة: إنزال 300 ألف جندي إضافي إلى ساحة حرب، رغم أن الروس ممنوعون من أن يطلقوا عليها هذا الاسم. تهديد باستخدام سلاح مدمِّر لا تسمح القوانين الروسية باستخدامه إلا في حالة تعرض البلد لخطر وجودي. استعداد لضم ما يقارب ثلث أراضي أوكرانيا إلى الاتحاد الروسي ما يجعل أي هجوم لاستعادتها من جانب القوات الأوكرانية «اعتداءً» على سيادة روسيا، في نظر بوتين. كما سوف يرغم القوات الروسية على مواجهة حرب مفتوحة في هذه المناطق، التي لن تتوقف كييف مدعومةً بشبه إجماع دولي عن المطالبة باستعادتها.
يضاف إلى حجم المغامرة ما أخذ يرافقها من ردود فعل داخلية بدأت تتوالى: تزايد الأصوات المعارضة في موسكو من مثقفين وإعلاميين وفنانين وسياسيين. اعتقال مئات المحتجين على قرار التعبئة في مختلف المدن الروسية. مسارعة شبان روس إلى إلقاء أنفسهم في أول قطار أو طائرة مغادرة. إقدام بعضهم على كسر أذرعهم للتذرع بعجزهم عن المشاركة في القتال... وفوق ذلك مواقف دولية من دول تُعد صديقة لموسكو وعلى علاقة طيبة مع بوتين: تركيا تنظر إلى الاستفتاء على ضم أراضٍ أوكرانية «عملاً غير شرعي لن يحظى باعتراف المجتمع الدولي». الرئيس إيمانويل ماكرون الذي حافظ على قنوات اتصال مع بوتين يدعو إلى مواجهة «الابتزاز الروسي». حتى كوريا الشمالية تؤكد عدم إرسالها أسلحة أو ذخائر إلى روسيا وتنتقد الولايات المتحدة لنشر هذه «الشائعات»... أما الصين والهند فقد انتقدتا في قمة شنغهاي الأخيرة الحرب الروسية في أوكرانيا ودعتا إلى تغليب الحل الدبلوماسي. وخلال اللقاء الأخير بين الوزيرين الروسي لافروف والصيني وانغ يي في الأمم المتحدة، دعا وزير الخارجية الصيني إلى عدم التخلي عن لغة الحوار، واصفاً موقف بلاده من الحرب بأنه «عادل وموضوعي»، وهي لغة دبلوماسية لا يمكن أن يُستنتج منها الدعم الكامل لموقف موسكو.
لا شك أن الرئيس الروسي يدرك عواقب التمادي في حرب أوكرانيا. لكنه سلك طريقاً صار صعباً عليه التراجع عنه. فمنذ بداية هذه الحرب، وضع بوتين كل رصيده على الطاولة. وصار مصيره وقدرته على المحافظة على موقعه في القيادة مرتبطاً بما ستؤول إليه الحرب. لم يكن هناك شك أن قرار الاجتياح كان قراره، فيما تحولت السياسة الخارجية والدفاعية إلى أدوات لتنفيذ القرار. ومثلما حصل في سوابق تاريخية مماثلة، يصبح صاحب القرار هو الرمز، ويتحول إلى بطل أو ضحية، يقطف تاج الانتصار ويدخل التاريخ من بابه الواسع، أو يدفع ثمن الهزيمة، ويهرب إلى حيث يتوفر منفى، إذا أُتيح له، يحصي فيه ما بقي من أوراق العمر. الانتصار له آباء كثيرون، أما الهزيمة فهي عادةً يتيمة، كما يقول المثل الشائع. وبوتين يدرك ذلك ويعرف أنه يلعب أوراقه كلها في هذه المغامرة. وأن الذين يصفقون من حوله اليوم يمكن أن يصطفوا في طابور الوداع، عندما تهب الرياح في الاتجاه المعاكس. ولأنه يدرك ذلك فإن القرارات التي سيتخذها في هذه الظروف هي أكثر خطراً على روسيا وعلى الدول المحيطة بها.
في حديث تلفزيوني على إحدى المحطات البريطانية، سمعت رئيس الحكومة الروسي الأسبق ميخائيل كازيانوف (2000 – 2004) الذي كان أول رئيس للحكومة في ظل رئاسة بوتين، يتحدث عن قرار الرئيس الروسي فرض التعبئة العسكرية وإجراء الاستفتاء على ضم أراضي إقليم الدونباس إلى روسيا. قال إن هذا القرار يمثل الفرصة الأخيرة أمام الرئيس الروسي، وتوقع تغييراً جذرياً في إدارة الحكم في موسكو «قبل نهاية هذا العام»، مشيراً إلى احتمال انتقال السلطة إلى رئيس انتقالي قبل إجراء انتخابات حرة يتم فيها اختيار قيادة جديدة للبلاد. وربما كانت هذه التوقعات مفرطة في بُعدها عن الواقع، خصوصاً أنها تأتي من مسؤول سابق ومعارض لسياسات بوتين منذ ما قبل اجتياح أوكرانيا، لكنها من دون شك تعكس مناخاً في موسكو ينتظر الفرصة السانحة لقطف ثمار فشل المغامرة الأوكرانية.