أسوأ ما يمكن أن يحدث لأي سياسي، في أيّ موقع كان، أن يضع نفسه في وضع ليس لديه فيه أي خيار آخر غير خيار التصعيد. هذا ما حدث مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي بات عليه حاليا إعلان “التعبئة الجزئية” في صفوف جيش غير راغب في القتال… وتنظيم استفتاءات تجرى في ظلّ الاحتلال لتبرير ضم أراض أوكرانية إلى روسيا.

تكمن المشكلة الرئيسية لبوتين في أنّه لا يعرف كيف يخسر. أن تعرف كيف تخسر، في السياسة أو في الحرب، أهمّ بكثير من أن تعرف كيف تربح. لذلك، يتصرّف بطريقة توحي بأنّه ذاهب إلى مزيد من الخسائر. يؤكّد ذلك الهزائم التي لحقت بالجيش الروسي شرق أوكرانيا أخيرا. لا يمكن الاستخفاف بالنتائج التي سترتب على نتيجة هذه الهزائم في بلد في بحث مستمرّ عن أمجاد يعتبرها ضائعة، بعيدا عن أي نوع من الواقعية.

الأمر نفسه ينطبق على “الجمهورية الإسلامية” في إيران التي لا تدري أنّ الربح لا يكون بتدمير هذه الدولة العربية أو تلك والنسيج الاجتماعي فيها بمقدار ما أنّه يكون بتوفير ظروف تسمح بعيش أفضل للشعب الإيراني. لا تدرك إيران أنّها مجرد دولة من دول العالم الثالث يُفترض في النظام فيها الانصراف إلى معالجة مشاكل البلد والشعب بدل الاستثمار في كلّ ما يخرّب المنطقة. تبدو إيران حاليا أمام انتفاضة شعبية واسعة تسبب فيها قتل الفتاة مهسا أميني، وهي من أصول كرديّة، تعاملت معها شرطة الأخلاق بخشونة بعد رفضها ارتداء الحجاب. امتدت هذه الانتفاضة الشعبية لتشمل مدنا ومناطق عدّة. ليس أكيدا أنّها تهدّد النظام في الوقت الراهن. الأكيد أنّها خطوة على طريق تخلّص الإيرانيين من نظام لا علاقة له بأي قيم حضاريّة في هذا العالم.

يخوض الرئيس الروسي منذ الرابع والعشرين من شباط – فبراير الماضي حربا مع أوكرانيا بعدما حشد قواته على حدوها. كانت هزيمته الأولى على أبواب العاصمة كييف. فوجئ بوتين بأن دخول كييف ليس نزهة وأن هناك عصبيّة وطنية أوكرانية وتصميما شعبيا على المقاومة. لعلّ أكثر ما فاجأه صمود الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. تحوّل زيلينسكي إلى شخص جدّي وتحوّل بلده، بفضل المساعدات الأميركية والأوروبية، إلى ندّ جدّي لروسيا. كانت كلّ حسابات بوتين خاطئة بما في ذلك تلك المتعلّقة بقوة الجيش الروسي ونوع سلاحه من جهة وقدرة الأوكرانيين على المقاومة من جهة أخرى.

في إطار أوسع، يتجاوز أوكرانيا، لم يدرك بوتين معنى خوض حرب في أوروبا. لم يعرف بوتين في أي وقت أنّ أوكرانيا شيء وأن سوريا، التي تدخّل فيها في مثل هذه الأيّام من العام 2015 دعما لنظام أقلّوي وتلبية لطلب إيراني، شيء آخر مختلف تماما. لم يدرك أنّ في استطاعته قتل الآلاف من السوريين والمشاركة في الحرب على الشعب السوري، وهي حرب مستمرّة منذ آذار – مارس من العام 2011، من دون حسيب أو رقيب. ما لم يدركه أن عدوانه على أوكرانيا سيعني وضع كلّ أوروبا في وجهه بدعم من إدارة أميركية مستعدة لتقديم كل المساعدات العسكرية الممكنة إلى زيلينسكي.

يجد الرئيس الروسي نفسه في وضع لا يحسد عليه. استخدم الابتزاز عن طريق قطع الغاز عن أوروبا والتلويح بالسلاح النووي. نسي أنّ هناك، في المدى الطويل، بديلا من الغاز الروسي وأن روسيا ليست الدولة الوحيدة التي تمتلك سلاحا نوويا.

وضع الرئيس الروسي نفسه في مأزق. ما ينطبق على روسيا، التي باتت دولة معزولة، ينطبق على إيران التي اعتقدت أنّ في استطاعتها متابعة ابتزاز العالم بمجرّد أن لديها ميليشياتها المذهبيّة، التي تعمل بإمرة “الحرس الثوري” الإيراني، في العراق وسوريا ولبنان واليمن. لم تستوعب “الجمهورية الإسلامية” في أي لحظة أن امتلاك أوراق إقليميّة شيء ولعب دور القوة المهيمنة شيء آخر. ثمّة حدود معينة لا تستطيع إيران تجاوزها. هذا ما جاء يذكّرها به البيان الألماني – البريطاني – الفرنسي الشديد اللهجة في شأن ملفّها النووي.

جاء البيان، الصادر قبل نحو أسبوعين، ليذكرها بذلك، في وقت تبدو إدارة بايدن منشغلة بأوكرانيا وبالانتخابات النصفية الأميركية في الثامن من تشرين الثاني – نوفمبر المقبل.

لم تعرف روسيا في عهد فلاديمير بوتين كيف تخسر. ستلجأ إلى التصعيد نظرا إلى أن الرئيس الروسي لا يستطيع الإقدام على أي خطوة تراجعية. ستدفع أوكرانيا غاليا ثمن هذا التصعيد من جهة ورفض بوتين الإقرار بأنّ حساباته الأوكرانية كانت خاطئة في أساسها من جهة أخرى. ستعاني أوروبا كلّها من أزمة الغاز هذا الشتاء. لكنّه سيتبيّن في المدى الطويل، أنّه ليس مسموحا لروسيا بتحقيق انتصار في أوروبا عن طريق السيطرة على أوكرانيا.

ليس أمام إيران سوى التصعيد أيضا. ستعاني دول المنطقة كثيرا من عجز “الجمهورية الإسلامية” عن الاعتراف بأنّ شعوب المنطقة، خصوصا في العراق وسوريا ولبنان، ترفض في معظمها أن تكون تحت وصايتها. لن تجد أمامها سوى تأديب هذه الشعوب، وتأديب الشعب الإيراني أيضا، كونها لا تعرف أن الاعتراف بالخسارة يبقى الطريق الأقصر للخروج من الأزمة العميقة التي تعاني “الجمهورية الإسلامية” منها، وهي أزمة لن تحلها التدخلات الإيرانية في هذه الدولة العربية أو تلك… وهي تدخلات لا تعني سوى ممارسة سياسة الهروب إلى أمام. منذ متى كان الهروب إلى أمام سياسة تحلّ مكان الاعتراف بالخطأ والسعي إلى العودة عنه قبل فوات الأوان؟

بوتين في أزمة والنظام الإيراني في أزمة. في أساس الأزمتين عجز عن معرفة ما تستطيع روسيا عمله وما لا تستطيعه. ما ينطبق على روسيا ينطبق على إيران. تبيّن أن جيش بوتين لا يستطيع خوض حروب طويلة وأن أسلحته من النوع البالي الذي تجاوزه الزمن وهو، مثل السلاح الإيراني، يصلح لقمع الشعوب كما الحال في سوريا حيث شراكة روسيّة – إيرانية في الحرب على شعب هذا البلد…