نفذت رئيسة الحكومة البريطانية ليز تراس أول وعد قطعته على نفسها خلال حملتها في الانتخابات الداخلية لاختيار زعيم لحزب المحافظين. قام وزير المالية الجديد كواسي كوارتينغ بالإعلان عن ميزانية تكميلية مصغرة في مواجهة أزمة المعيشة في بريطانيا. الجزء الأول من الميزانية المصغرة كان اقتراض الحكومة 60 مليار جنيه إسترليني (مع تقارب الجنيه والدولار في القيمة يمكن اعتبارها 60 مليار دولار) لدعم فاتورة الطاقة للأسر البريطانية على مدى ستة أشهر قادمة. الجزء الثاني، إعفاءات ضريبية لصالح الأثرياء بقيمة 45 مليار جنيه إسترليني. قرارات خطيرة أدت إلى تهاوي قيمة الجنيه لمستويات تعود إلى الثمانينات.

سواء أكانت قرارات تراس/كوارتينغ صحيحة أم خاطئة، فإنها تعكس العقلية التي يتحلى بها القادة الغربيون في مواجهة مشاكل دولهم وشعوبهم. ثمة جدل واسع الآن بين الأحزاب وفي منابر الإعلام وبين الناس على الشبكات الاجتماعية حول جدوى، مثلا، اقتراض 60 مليار جنيه ستحرق عمليا (باعتبارها مخصصة لدعم فاتورة الغاز والكهرباء للأسر). هذا قرض ستحمله أجيال على عاتقها لتسدده من فوارق ضرائب لاقتصاد ينتظر له أن ينمو، على الرغم من انعدام المؤشرات على ذلك.

تعوّدنا أن نسمع أرقام المليارات من الغرب. ولكن كي نستوعب ضخامة هذه الأرقام، علينا أن نجري مقارنات مع تلك التي يتم تداولها في بلادنا.

خذ مثلا المفاوضات الطويلة بين الحكومة التونسية وصندوق النقد الدولي. منذ سنتين هناك أخذ ورد بين الطرفين حول قرض في حدود ملياري دولار يمكن أن يرتفع ليصل إلى أربعة مليارات. يعتقد التونسيون أن مبلغ ملياريْ دولار سيولة بشروط إصلاحية يمكن أن يصحح الوضع الاقتصادي المتدهور بسبب تبعات عقد من الإدارة الحكومية السيئة وارتفاع فاتورة واردات الطاقة والغذاء المترتبة على الحرب في أوكرانيا. البريطانيون سيحرقون 60 مليار دولار فارق مصاريف الوقود (بقية التكلفة يدفعها المواطن بسقف سنوي أعلى يصل إلى 2500 جنيه) خلال ستة أشهر، بينما مبلغ ملياري دولار يمكن أن يصلح ميْل الاقتصاد التونسي.

نفس الشيء يقال عن مفاوضات مصر مع صندوق النقد. ومصر، على العكس من تونس، بلد يشهد انفجارا سكانيّا؛ فالتقديرات تشير إلى أن ارتفاع عدد السكان منذ تولّي الرئيس عبدالفتاح السيسي الحكم إلى يومنا هذا يتجاوز عدد سكان تونس كلها.

لماذا هذه المقارنات؟ السبب بسيط ويكمن في أن البريطاني والتونسي والمصري يشتركون، ربما لأول مرة، في القلق مما هو قادم. الناس، مثلهم مثل الحكومات، لا فكرة لديهم عن قدرة بلدانهم على الخروج بسهولة من الوضع الاقتصادي الصعب. وقد كانت وسائل الإعلام الغربية ذكية حين اختارت توصيف “أزمة المعيشة” بدلا من “الأزمة الاقتصادية” في تبيان طبيعة الأزمة الراهنة.

القلق هو أساس الوضع الراهن. لم يصل الحال إلى ثورة اجتماعية في أي من دول العالم نتيجة الوعي العام بأن الأزمة أكبر بكثير من قدرة الدول منفردة على مواجهتها. تونس ومصر تتواصلان مع صندوق النقد، وبريطانيا حسمت أمرها وعمدت إلى الاقتراض المحلي بأرقام هائلة.

لكنْ ثمّة فرق؛ إنه الشفافية. البريطانيون يعرفون بالضبط طبيعة القرار الحكومي. في المقابل، تحيط السرية بخطط الحكومتين التونسية والمصرية في مواجهة أزمة المعيشة. ومع السرية والتكتم تأتي الشائعات التي تروج اليوم أكثر من أي وقت مضى من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

الشبكات الاجتماعية في تونس حافلة بصور لأرفف محلات السوبر ماركت وهي فارغة من الطحين أو الزيت أو السكر. حكايات عن سفن تصل إلى الموانئ التونسية محملة بمواد غذائية أساسية، ثم تستدير عائدة من دون تفريغ حمولتها لعدم قدرة الحكومة على دفع فواتيرها. قصص حقيقية بسيطة وواردة، وأخرى يصعب تصديقها. كل هذه القصص تستثمر في انعدام الشفافية.

نفس الشيء في مصر، حيث القلق مضاعف لاعتبارات عدد السكان، ولطبيعة الواردات المصرية بالعملة الصعبة. ترحيل الكويت العمال المصريين مثلا لم يعد قضية خلاف على عقود عمل وتواجد فائض -حقيقي أو مفتعل- لعمال مصريين في الكويت، بل هو تخوّف من حرمان مصر من تحويلات بالعملة الصعبة هي في أمس الحاجة إليها الآن. المصريون، وعلى الشبكات الاجتماعية أيضا، يسألون لماذا لا تقدم دول الخليج الغنية المزيد من الدعم المالي وهي تعيش أزهى عصور الريع النفطي، بعد أن قدمته وقت إحساسها بخطر الإخوان عندما وصلوا إلى الحكم قبل عشرة أعوام؟ الجوع خطر والأيديولوجيا خطر؛ كلاهما يمكن أن يفكّك النسيج الاجتماعي لبلد محوري مثل مصر ويعرّض البلاد لهزة تبدو المنطقة في غنى عنها. المصري اليوم، وأيضا بسبب انعدام الشفافية، لا يعرف من المعلومات إلا ما تعلنه وزارة التموين عن وصول شحنات من القمح أو حجم مخزونه الإستراتيجي في البلاد شهريّا. الحكومة تريد تبرئة ذمتها، والقول بأن لا جوع يهدد الناس، بعد أن حصرت تعريف مواجهة الجوع بالقمح والرز والزيت والسكر. ماذا عن ألف سلعة أخرى وأكثر يتداولها المصريون بشكل يومي ويجد المواطن العادي أنها في تزايد سعري لا يستطيع مجاراته.

القلق كبير وليس محصورا في تونس أو مصر. منصات التواصل الاجتماعي في الخليج حافلة بالحديث عن الغلاء والتقشف والبطالة. تويتر يعج بملاحظات عن الوظائف وتوفرها أو حذف العلاوات أو طبيعة عقود الاستخدام للمواطنين والمفاضلة بينهم وبين الوافدين لاعتبارات مختلفة. في موقع رائد مثل موقع “أثير” العماني مثلا، تجد أن القصة الأكثر رواجا منذ عام إلى يومنا هذا تتعلق بتخيير شركة لموظفيها من المواطنين العمانيين بين اقتطاع 40 في المئة من رواتبهم أو الاستغناء عن خدماتهم. مرة أخرى، القضية تتعلق بالشفافية، لكن الفارق هو أن هذه الدول ثرية وتستطيع أن تضمن توفير كل الأساسيات بأسعار معقولة، لكن أزمة المعيشة أزمة عالمية وتمس الجميع. قد لا يكون هناك في الخليج حديث عن مشكلة نقص الرز والزيت، لكن القلق موجود أيضا.

منذ تأسيس الدولة العربية الوطنية الحديثة، ظل الكثير من المعطيات الأساسية التي تتعلق بالميزانيات والمخزون الغذائي وأرقام الدعم والواردات من أسرار الدولة. كانت الحكومات تقلق من تسريب مثل هذه المعلومات التي قد تتحول إلى أزمات اجتماعية يصعب التحكم فيها. لكن أرفف المحلات لا تكذب ولا تستطيع أن تخفي النقص ولهذا شهدنا ثورات الخبز في أكثر من بلد عربي في السبعينات والثمانينات. واليوم القلق أكبر. لكن للمرة الأولى يبدو المواطن اليوم مستعدا أكثر من أي وقت مضى لتقبل الحقيقة وأن تطلعه حكومته على عمق الأزمة وخططها لمواجهتها. الأخبار السلبية هي أخبار في النهاية ولا تعني دائما أنها أخبار سيئة، بل قد تكون فرصة لإجراء تصحيحات بنيوية على مستوى أساليب العمل واستهلاك الموارد والحصول على القروض وإنفاق الريع النفطي.

لم يسبق أن مرت الحكومات بزمن يمكن لها فيه أن تصارح شعوبها أفضل من هذا الزمن. في مواجهة قلق شرعي، هذه دعوة للشفافية.