في تعليقه على قمة سمرقند لدول «منظمة شانغهاي للتعاون» التي التمأت يومي 25 و16 سبتمبر الجاري، اعتبر «لوري أشاكوف» المستشار الدبلوماسي للكرملين أن "هذه المنظمة تقدم بديلاً حقيقياً للهياكل الموجَّهة لصالح الغرب».
وتعكس هذه المقولةُ المقاربةَ الروسية الجديدة للنظام الدولي، والتي تحددت بعد حرب أوكرانيا الأخيرة، لكن خلفياتها سابقة على هذا الحدث الجوهري، وترتبط بمضمون التصور الأوروآسيوي للخريطة العالمية الجديدة وفق الدوائر النافذة في موسكو.
ومع أن المنظمة بدأت في شكل ناد إقليمي محدود عام 1996، قبل أن تتشكل رسمياً عام 2001 من خلال عملية الشراكة الاستراتيجية الروسية الصينية الموسعة إلى بلدان آسيا الوسطى، فإنها تحولت بعد انضمام الهند إليها عام 2017 إلى محور دولي مهم، قبل أن تتوسع بصفة ملموسة إلى البلدان الرئيسة في الشرق الأوسط، بما فيها البلدان الخليجية والعربية المؤثرة التي وقّعت معها اتفاقيات حوار وشراكة في قمة سمرقند الأخيرة.
لم تكن المنظمة تطمح عند إنشائها إلى أن تكون بديلاً للنظام الدولي التي صاغته القوى الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، بل استندت إلى مرتكزات ثلاثة هي: عدم الانحياز وعدم الصدام وعدم العداء، مع التركيز على الأهداف الاقتصادية والتنموية.
بيد أن المنظمة عانت منذ تأسيسها من صدام ضمني في الاستراتيجيات والتوجهات بين مكونيها المحوريين: الصين التي تريدها ذراعاً لنموها الاقتصادي والتجاري خصوصاً بعد إعلانها مشروع طرق الحرير الجديدة سنة 2013، وروسيا التي تطمح إلى أن تكون قاعدةً للمنظومة الدولية الأوروبية الآسيوية البديلة للمؤسسات العالمية التي يهيمن عليها الغرب.
ولقد انعكس هذا الصدام في صراع النفوذ في منطقة آسيا الوسطى التي هي تاريخياً امتداد جغرافي واستراتيجي لروسيا، ومن ثم الحرص على إبعادها عن الاختراق الصيني، في الوقت الذي تحرص الصين على تأهيلها لتكون جسرَ تمددها إلى أوروبا بدلاً من المرور الاضطراري والمكلِّف بروسيا.
بيد أن الصين استطاعت بالفعل في السنوات الأخيرة بناءَ شراكات اقتصادية قوية مع بلدان آسيا الوسطى، تجسدت في أنبوب الغاز الصيني الآسيوي الذي اكتمل نهاية عام 2009، وخط النفط الصيني الكازاخستاني، قبل أن يتم الاتفاق مؤخراً على بناء سكة حديدية رابطة بين الصين وأوزبكستان وقرغيزستان.
وبانضمام تركيا المتوقع للمنظمة، بعد انضمام الهند وباكستان وإيران، وتوسع شراكاتها مع البلدان الشرق أوسطية العربية، بدأت تظهر تخوفات بارزة في الدوائر الاستراتيجية الغربية من أن تتحول المنظمة إلى نمط جديد من الحلف العسكري والمنظومة الاقتصادية والتجارية العالمية، في الوقت الذي ترتفع أصوات عالية في الدول الآسيوية الكبرى مطالبةً بنظام دولي جديد يُنهي الهيمنةَ الغربية على العالم.
وقد علّقت إحدى الصحف الروسية على قمة سمرقند قائلة إنها جمعت ممثلي 45 بالمائة من سكان العالم و25 بالمائة من ثروته، مستنتجةً أنه لم يعد بالإمكان تغييب هذه القوة الوازنة الكبرى التي ستصنع مستقبلَ العالَم.
لا يبدو أن الصين متحمسة لهذه النغمة الراديكالية، بل إن رئيسها «شي جين بينغ» أكد مجدداً تمسك بلاده بمبادئ ومرتكزات الشرعية الدولية وبالمنظومة الأممية، بما فيها معايير احترام سيادة وحدود الدول، وعدم حسم الصراعات بالعمل المسلح، في ما اعتُبر نأياً عن الانحياز للموقف الروسي في حرب أوكرانيا الحالية. كما أن المنظمةَ في تركيبتها الحالية تجمع بين دول شديدة الاختلاف والتباين في توجهاتها الداخلية وسياساتها الدولية، ومن هنا استحالة الحديث عن محور جديد للنظام العالمي.
ما يبدو جلياً هو انتصار الرؤية الصينية للشراكة الأوروآسيوية، المعتمدة على الاقتصاد والتجارة، على الرؤية الروسية المبنية على اعتبارات أيديولوجية واستراتيجية.
ما يهم الصين هو منافسة الولايات المتحدة الأميركية على التحكم في المنظومة الاقتصادية المعولمة من خلال الصناعات التقنية الجديدة وكسب القنوات التجارية الخارجية الفاعلة، مع حصر تدخلها العسكري والأمني في مجال نفوذها المباشر في منطقة بحر الصين الجنوبي.
لذا من الطبيعي أن يختلف المشروع الصيني عن المقاربة الروسية التي تنزع إلى تحويل المجال الأوروآسيوي بكامله إلى بؤرة كفاح عالمي ضد الهيمنة الغربية.
إلا أنه من البديهي أن الأهداف الاقتصادية لا يمكن فصلها جذرياً عن التوجهات الاستراتيجية، ومن هنا يمكن النظر إلى مشروع شانغهاي بوصفه مظهراً لتصدع حقيقي في النظام الدولي ومؤشراً لتصاعد الاستراتيجيات الاحتجاجية للبلدان الحليفة تقليدياً للقوى الغربية الكبرى التي تعاني مصاعب حقيقية في تأمين وحماية المنظومة التي أنشأتها وصاغتها في النصف الثاني من القرن العشرين.