"تعهدنا بإعطاء الأولوية للنمو، ووعدنا بنهج جديد لعصر جديد"

كواسي كوارتنج، وزير الخزانة البريطانية
استفادت الحكومة البريطانية الجديدة من فترة الحداد الطويلة على الملكة اليزابيث الثانية. كانت ضرورية للوصول إلى صيغة نهائية لموازنة عامة وصفت بـ"المصغرة"، لكن بنودها والمتغيرات التي جلبتها تجعلها موازنة كبرى. وهذه الموازنة خصوصا، تأتي وسط سلسلة من التطورات حتى التحولات على الساحة البريطانية. في مقدمتها بالطبع الانقسام الذي وصم رحلة وصول ليز تراس، إلى زعامة حزب المحافظين، وبالتالي إلى رئاسة الوزراء، إلى جانب، الأوضاع الاقتصادية الصعبة الراهنة منها محلية التكوين، وأخرى عالمية المصدر. فضلا عن مؤثرات قديمة متجددة، كالمشكلة العالقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي حول مصير إقليم أيرلندا الشمالية، وتعثر الوصول إلى اتفاق تجارة مع الولايات المتحدة. وبالطبع مخرجات الحرب الدائرة في أوكرانيا، التي دفعت حكومة تراس "مثلا" لإعلان رفع إنفاقها العسكري إلى 3 في المائة من مجموع الناتج المحلي الإجمالي.
الموازنة التي أعلنها وزير المالية الجديد أيضا كواسي كوارتنج، فيها من البنود المتفجرة الكثير، ليس من جانب حزب العمال المعارض فحسب، بل من جهة عدد من قيادات الحزب الحاكم، الذين يعتقدون أن اعتماد الحكومة على الاقتراض غير المقيد لدفع النمو إلى أعلى، ليس سوى مقامرة، على اعتبار أن النمو ليس مضمونا، في مواجهة ديون حقيقية واجبة السداد، في وقت تجاوز فيه الدين العام الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وبصرف النظر عن مواقف هؤلاء الذين يتزعمهم وزير المالية السابق ريشي سوناك، والمرشح السابق أيضا لزعامة المحافظين ضد ليز تراس، فحكومة هذه الأخيرة ماضية لتكريس مجموعة من الإجراءات الاقتصادية في غضون عامين يفصلان البلاد عن انتخابات عامة لن تكون سهلة على الحزب الحاكم. هذا إن لم تحدث تطورات تؤدي إلى انتخابات مبكرة قبل نهاية العام المقبل.
ولعل أهم ما أتت به الموازنة البريطانية، البنود الخاصة بخفض الضرائب على جميع شرائح المجتمع، إلا أنها مالت كثيرا لمصلحة الأثرياء، في الوقت الذي بلغت فيه تكاليف العيش حدودا تاريخية مرتفعة. فقد تجاوز التضخم الشهر الماضي 10 في المائة، أي أنه دخل نطاق الخانة العشرية المرعبة لأي حكومة تريد أن تدير اقتصادا وسط أمواج متلاطمة، وفي ظل متغيرات لا تسيطر عليها حقا. الحجة لخفض الضرائب، أنها ستزيد من حجم الأعمال، وتستقطب أخرى من الخارج، وهذه الأعمال ستولد بالضرورة الضرائب التي تمول تلقائيا عمليات الاقتراض الحكومية. وهنا يصبح العنوان الاقتراض وخفض الضرائب من أجل تحقيق النمو. إلا أن هذه المهمة ليست سهلة، وسط سياسات رفع الفائدة التي تضرب تلقائيا أيضا وتيرة اقتراض الشركات والأعمال عموما. فإذا كانت الأولوية للنمو، فيجب أن تكون مساوية لأولوية التضخم، وهو أمر يستحيل حدوثه حاليا.
تريد الحكومة البريطانية أن يكون اقتصاد البلاد أكثر "إغراء" بين اقتصادات دول مجموعة العشرين، عبر ضرائب منخفضة، بما في ذلك ضرائب الشراكات التي ثبتها وزير الخزانة عند 19 في المائة، بينما كانت خطة حكومة بوريس جونسون السابقة تستهدف رفعها إلى 25 في المائة، لمواجهة التأثيرات السلبية لجائحة كورونا، إضافة إلى التباطؤ الاقتصادي الذي يسير بخطوات ثابتة نحو الركود، فضلا عن الانعكاسات الاقتصادية المتوالية للحرب في أوكرانيا، بما في ذلك ارتفاع هائل في أسعار الطاقة، الأمر الذي دفع حكومة تراس لرصد 60 مليار جنيه استرليني لدعم الطاقة في ستة أشهر فقط. وهذه الأموال ستأتي بالطبع من الاقتراض الذي يمكن أن يكون العنوان الأبرز للموازنة المصغرة. إضافة إلى تكاليف التخفيضات الضريبية التي قدرها وزير الخزانة بـ45 مليار استرليني.
إنها أكبر تخفيضات ضريبية منذ 50 عاما، كما أنها أعلى وتيرة للاقتراض منذ أعوام أيضا. والهدف يبقى دائما تحقيق نمو بـ2.5 في المائة سنويا على المدى المتوسط. وهذا المستوى لم يتحقق منذ عقد من الزمن. لكن الهدف الأهم في الوقت الراهن، عدم وقوع اقتصاد بريطانيا في دائرة الركود. لكن السؤال الأهم يبقى حاضرا، حول نجاح استراتيجية الاقتراض والإنفاق وخفض الضرائب لتأمين النمو بصرف النظر عن مستواه. الجواب الواقعي، إن الضمانات ليست متوافرة حتى الآن. الأمر الذي يفسر اضطراب السوق المالية في لندن في أعقاب إعلان الموازنة المصغرة المشار إليها، وعدم تناغمها مع معطيات الخطة الاقتصادية للأشهر القليلة المقبلة. بما في ذلك وصول قيمة الجنيه الاسترليني إلى أدنى مستوى لها أمام الدولار الأمريكي منذ 1985. فالعملة البريطانية تقترب بالفعل من نقطة التساوي مع الأمريكي، على الرغم من قوة الدفع التي تحصل عليها من الرفع الدوري للفائدة.
الخوف من الركود، يدفع بالفعل لاتخاذ إجراءات اقتصادية لا تجد إجماعا سياسيا عليها في بريطانيا. وإذا فشلت الحكومة في منع الركود من التغلغل إلى صلب الاقتصاد، ولم تستطع تحقيق النمو المستهدف لهذا العام على الأقل، فإن الموازنة المصغرة ستشكل عبئا ثقيلا على كاهل حكومة جديدة، بقيادة حزب منقسم على ذاته، ما يوفر مزيدا من الدعم للعمال الذين ينتظرون أي فرصة لانتخابات عامة مبكرة.