منذ صغري وأنا معجب بالسعودية، بأرضها الشاسعة وأهلها وثقافتها وتنوعها وعاداتها وتقاليدها. لقد بدأت حياتي المهنية فيها، في صيف العام 1967 وفي وكالة سيارات نيويوركر كرايسلر تحديدًا، كانت تلك الأيام في جدة مثل أيام البحث عن الذهب في أميركا، أناس من أنحاء مختلفة من العالم منشغلون في مسيرة البناء والعمران والتنمية السعودية التي كانت اكتسبت زخمًا كبيرًا حينها، لكن ليس بحجم زخم التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي تشهده السعودية هذه الأيام، فهذا التطور غير مسبوق على الإطلاق، ويكاد يوازي بأهميته مرحلة التأسيس على يد المغفور له الملك عبدالعزيز ذاتها.

هذا التطور جعلني أحب السعودية أكثر وأكثر، لأنني أراها تحقق قفزات نوعية وتذهل ليس فقط منطقة الخليج العربي بل العالم بأجمعه، فأن ينعم الله تعالى عليك بخيرات طبيعية وفيرة شيء، وأن تستثمرها إلى أقصى حد بذكاء وحكمة وتحولها لخير يعم الجميع شيء آخر.

وفي كل مرة أزور السعودية، يزداد انبهاري بالتغيير والتقدم المنجز على أرض الواقع من مشروعات عملاقة، والتقدم الذي أراه كل يوم في السعودية منذ عشر سنوات وحتى الآن مذهل في الواقع، وكأن البلاد في سباق مع الوقت ليس لتعويض ما فاتها من تقدم تسحقه بكل تأكيد، ولكن لتعزيز أسبقيتها والدخول في مجالات جديدة تماما، بل وقيادة المنطقة والعالم تجاه تلك المجالات، ونحن هنا لا نتحدث عن تنمية عمرانية واقتصادية فقط، بل عن تنمية بشرية بمختلف أبعادها.


بصبر وثبات، قاد ملوك السعودية السابقين رحمهم الله مسيرة تقدمها، وتمكنوا من تجنبيها الهزات السياسية والاجتماعية العنيفة، وظلت ركائز الحكم راسخة في أرض حباها الله بأن تكون حاضنة للحرمين الشريفين، ومهدا لانطلاق رسالة الإسلام، والقرآن الكريم، وخاتم النبيين. والتف الشعب السعودي دائمًا حول قيادته، وكما أنا فخور وسعيد بتعاملي معهم منذ أكثر من خمسين عاما وحتى الآن.

لقد اتهمونا بالتخلف، وأننا نعيش في الماضي، ونحرم المرأة من حقوقها، واليوم أصبحت المرأة السعودية رائدة، بل ومطلوب منها أكثر مما هو مطلوب من غيرها من نساء العالم، وأخذن السعوديات يتبوأن مراكز عالية، ويقدمن للعالم ابداع وخبرة وعبقرية، لكنها بقيت في الوقت نفسه حريصة وأمينة على الاتزان والتوازن بالضبط كما أراده الإسلام لنا، حالها حال الدولة السعودية كاملة، والتي تحرص على إبعاد كل من يسيء للإسلام بتفكيره أو تصرفه الخاطئ، بل تعاقبه.

من أرض السعودية الطيبة أخرج الله تعالى للعالم الإسلام والقرآن، ومنها لمعت العروبة والعربية، وهي اليوم تحافظ على اللغة والعرب، ثم منحها الخيرات في أرضها فأصبحت محركا رئيسيا في العالم بأجمعه، وأصبح العالم يعتمد بقوة حركته ونموه على ما تصدره السعودية من طاقة وخيرات.

التقدم السعودي شمل كل شيء، الانفتاح وصقل الجواهر التي كانت بعيدة عن الناس، اكتشف العالم محافظة العلا الرائعة، وبدأ لأول مرة يسمع عن مدينة لم يشهد التاريخ لها مثيل، مدينة نيوم، ورأى الشباب السعودي المبدع من الجنسين يجتهد في كل يوم لنقل وطنه خطوة أخرى للأمام وفي الصدارة.
وكان من الطبيعي أن ينعكس كل ذلك على تعزيز قوة ومكانة السعودية على الساحة العالمية، فها هي تعزز حضورها في مجموعة العشرين التي تقدم أقوى عشرين دولة في العالم، وتقود الرياض ملفات عالمية كبرى ذات صلة بالمناخ والتنمية وغيرها، وأحدث مثال على ذلك نجاح الوساطة السعودية في تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، وهو ما يعطي السعودية بكل تأكيد دورًا أكبر لوساطات أكبر في هذه الحرب، وفي الملفات الدولية الكبرى.

السعودية لديها مصلحة قوية في السلام الإقليمي والاستقرار والازدهار، وهي لم تسع نهائيا لتوسعة حدودها أو فرض نفسها على الآخرين، وكما ذكرت سابقا، لقد تسنت لي فرصة معايشة تحول المملكة العربية السعودية إلى قوة عالمية، لكن هذا التحول لم ترافقه مظاهر الغطرسة ونوايا فرض الهيمنة التي تلازم صعود القوى الكبرى عادة، وبقيت السعودية مثالا نادرا على الدولة التي تملك القوة العظمى والنفوذ العالمي، وتحترم الدول الأخرى وتحظى باحترام دولي في المقابل، خاصة وأنها اختطت لنفسها نمط حياة مميز وآمن تركن إليه جميع مكونات الدولة من قيادة وشعب ومؤسسات، ولكن دون أن تسعى لفرض هذا النمط على الآخرين.

ورغم كل التحديات الخارجية نرى أن المملكة العربية السعودية تواصل تقدمها بعزم وشجاعة، وقد زادتها الأطماع والتهديدات الخارجية إصرار على مزيد من العمل والانجاز. وفي الواقع إن عددًا قليلاً من الدول حول العالم يتمتع بهذه المستويات العالية من التطور، مدن ضخمة ومناطق صناعية ومشاريع كبرى تنشأ من العدم، وكل ذلك يحدث بنشاط ودقة، وهذا ما يجعلني أشبه المملكة العربية السعودية في كثير من الأحيان بخلية النحل.

بالمقابل لدينا أمثلة لدول لا تقل مواردها النفطية كثيرًا عن موارد المملكة العربية السعودية، من بينها نيجيريا التي تمزقها النعرات الداخلية والاضطرابات والفتن والهجمات التي تطال آبار البترول والمصافي، حيث يسود الفقر وانعدام الأمن رغم الموارد النفطية الهائلة، ولدينا أيضًا فنزويلا، الدولة التي يحكمها نظام اشتراكي بأفكار اقتصادية متخلفة ويستمد قوته من خلال معاداة ما يسميه «الإمبريالية الأميركية»، هذه الدولة النفطية العظيمة عجزت عن دفع رواتب موظفيها بعد شهر أو شهرين من هبوط أسعار النفط قبل نحو عامين! ولا داعي هنا لأتحدث عن دولنا الفاشلة حكوميًا وسياسيا وإداريا مثل لبنان وسورية والعراق وغيرها!

السعودية جعلتني كعربي أن أفتخر أكثر بكوني عربيًا، ونحن كخليجيين نفخر بأن نكون جزءًا من هذا العالم الذي تبينه لي لنا القيادة السعودية والقيادة الخليجية، فشكرًا للملك سلمان بن عبدالعزيز، وشكرًا لولي عهده رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، اللذين أصبحت السعودية بفضلهما قبلة العالم، ليس الدينية فقط، بل الاقتصادية والحضارية أيضًا.