تحقِّر القيادةُ الإيرانية الانتفاضة على النظام في طهران لأنها تعتبرها مجرّد نسويّة وشبابية بلا قيادة ولا شعبية مصيرها الانطفاء، ويراهن رجال النظام على وهنٍ تلقائي في احتجاج دول العالم على قمع الانتفاضة بسبب انشغالها بالحرب الأوكرانية وتداعياتها، ولذلك لا يأخذون بيانات الانتقاد والاحتجاج على محمل الجدّ. القيادات الأوروبية تخبئ رؤوسها تحت قبة معطفها وهي تغض النظر عمداً خشية أن يغضب رجال النظام ويعاقبوها باستمرار رفضهم للصفقة النووية، ما لم تُستبعد الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن نشاطات البرنامج النووي الإيراني.
ترجمة فشل الصفقة في نظر الأوروبيين هي الصقيع الآتي هذا الشتاء إذا لم تعوّض إيران عن النفط الروسي، وكذلك الانتقام الإيراني بعودة نشاطات إرهابية الى أوروبا والرعب من تطوير قدرات التسليح النووي الإيراني بسرعة فائقة. أما إدارة بايدن، فإنها تتمسك بـ"شعرة معاوية" مع النظام في إيران، تارة تسترضيه الى الصفقة، وتارة تفرض عقوبات طفيفة عليه مهدِّدة بالكف عن غض النظر عن الانتهاكات للعقوبات، وها هي إدارة بايدن اليوم تدّعي أنها تدعم الانتفاضة في إيران بإجراءات انطلاقاً من التزامها بمبادئ حقوق الإنسان، لكنها في الوقت ذاته تؤكد أنها ليست معنيّة بتغيير النظام في طهران- وهي لا ترى أي تفاوت أو تناقض بين الأمرين.
ما يهم رجال النظام في طهران هو استمرار سياسة "قبّ الباط" بما يسمح للجمهورية الإسلامية الإيرانية بتصدير نفطها - وتصدير نفط العراق الذي تسرقه - الى الصين وغيرها بموافقة ضمنية من إدارة بايدن. يهمّ هؤلاء الرجال استمرار سياسة "غض النظر" بينما يقضون على الانتفاضة ضدهم ويمحون فكرة تغيير النظام من الذاكرة الوطنية والدولية.
هذه تظاهرات احتجاجية "بسيكولوجية" و"عاطفية" بحسب نظرة رجال النظام في طهران للانتفاضة. تظاهرات انطلقت من مجموعات صغيرة من الشابات والشبان ومن جيل لم يعتد التنظيم والعمل السياسي. وبالتالي يرى رجال النظام أن مهمتهم سهلة أساسها منع القدرة على التنظيم، تحقير الانتفاضة وتحجيمها وتجريدها من الصفة السياسية، أي بمعنى إلغاء فكرة الاحتجاج على أداء النظام في إدارة البلاد.
وفاة مهسا أميني أثناء اعتقالها من قبل شرطة الأخلاق في إيران أطلقت موجة احتجاجات لاقت قمع السلطات الإيرانية وحصدت العشرات من الشباب. انطلقت "ثورة الحجاب" كما يسميها البعض احتجاجاً على فرض الحجاب على الإيرانيات، ولاقت حقاً ذهول العالم وقرفه من أداء النظام ورجاله.
لكن العالم يمر في محنة بسيكولوجية وعاطفية وسياسية واقتصادية ويحبس أنفاسه خوفاً من تطوّر الحرب الأوكرانية الى كارثة نووية، ولن يندفع الى مساعدة النساء والشباب في إيران في وجه قمع ثيوقراطية النظام. وهذا تماماً جزء مما يراهن عليه رجال النظام الذين يسخرون من شبابهم ونسائهم ويحقّرون انتفاضة الحجاب.
فقط شعب إيران هو الذي في وسعه أن يغيّر المعادلة وأن يفاجئ رجال النظام ليقول لهم إنهم أخطأوا الرهان. إذا حدث مثل هذا التحوّل النوعي في ذهن الشعب الإيراني على مستوى شعبي يشمل مختلف الأجيال، هناك أمل بأن تكون انتفاضة 2022 أكثر نجاحاً من انتفاضة 2019. والانتفاضتان كلتاهما انطلقتا جزئياً من جرائم بحق شابات إيرانيات.
الدعم المعنوي والفعلي لهذه الانتفاضة على الصعيد العالمي أمر ضروري ولا يُستهان بأهميته. لكن رجال النظام في طهران مقتنعون أن العالم لن يتدخل، وأن الداخل الإيراني لن يتجرأ، وأن بطش النظام سيمر بلا عقاب. انهم يريدون إخماد هذه الانتفاضة بأسرع وقت ممكن كي لا تؤثّر في الصفقة التي يريدون إبرامها مع أوروبا والولايات المتحدة. لذلك مهمّ جداً لرجال النظام أن تنتهي هذه الانتفاضة في غضون أسابيع، إن لم يكن بأيام، بلا المزيد من القمع، بل بأسلوب يمكّنهم من القول إن تلك كانت مجرد فورة عاطفية بلا قاعدة شعبية. ثم يعودون الى التفاوض والابتزاز النووي بعد الانتخابات النصفية الأميركية بلا ذاكرة انتفاضة الحجاب.
المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا وصلت الى حائط مسدود في هذا المنعطف بعدما كانت على وشك انتهائها بصفقة، وذلك باعتراف المسؤولين الأميركيين الذين اعترفوا أنهم أخطأوا التقويم وأخطأوا قراءة رجال النظام في طهران. عنوان الخطأ هو الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي كان الأوروبيون على استعداد لتحييدها الى أن اصطدموا واصطدمت إدارة بايدن معهم بوضوح استعداد طهران للتضحية بكامل الصفقة وبرفع العقوبات عنها، إنما ليس ببرنامجها النووي المتطوّر. لذلك رفضت وضعه تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
هذا الرفض يشكّل خطاً أحمرَ لإدارة بايدن إذ ليس في إمكانها إظهار أية مرونة في مسألة صلاحيات الوكالة الدولية للتحقق من سلميّة البرنامج النووي الإيراني.
أما المسائل الأخرى، فإن إدارة بايدن جاهزة لفصلها عن الصفقة، بدءاً من مساعدة إيران لروسيا عسكرياً في حربها على أوكرانيا، وانتهاءً بقمع طهران للاحتجاجات وانتفاضة النساء والشباب. وما يقوله رجال بايدن هو أن إصرارهم على إنجاح الصفقة مع إيران لإحياء الإتفاقية النووية JCPOA سببه لجم الطموحات النووية العسكرية الإيرانية، وتجنّب التورّط في معالجة عسكرية للأزمة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لذلك، يقولون، إن لا مناص من استمرار الطرق الدبلوماسية وأن الخيار العسكري ليس خياراً لحل الأزمة، لكنه يبقى مطروحاً على الطاولة على المدى البعيد... جداً.
ماذا لدى إدارة بايدن من خيارات إذا استمر الوضع الراهن، أي ما بين عدم فشل المفاوضات وعدم تفعيل الخيار العسكري؟ يقول رجال بايدن إنهم سيسيرون في طريق العقوبات التي سلكها الرئيس الأسبق دونالد ترامب مع زيادتها. المعادلة هي ان إدارة بايدن لن تقف مجمّدة في "الوضع الراهن" بل إنها ستواجه تقدّم إيران نووياً بتشديد العقوبات وعزل إيران.
ما لن تفعله إدارة بايدن هو الربط بين الاحتجاجات والعقوبات والمحادثات. في اعتقاد رجال بايدن، أنه من قصر النظر أن تنطلق دعوات تطالب إدارة بايدن باختتام وإنهاء المحادثات والمفاوضات النووية المتعثِرة والمتوقعة حالياً من أجل الضغط على النظام في طهران دعماً للانتفاضة أو ضغطاً عليه لتغيير سلوكه نحو شعبه. إنها فخورة بإجراءات اتخذتها دعماً للمتظاهرين مثل إدانة أداء النظام وفرض عقوبات والمساعدة على التواصل بين الانتفاضة والعالم. ولكن، يقول رجال بايدن إن البراغماتية تدفع بهم الى التوازن بين الاندفاع وراء القِيَم والحرص على عدم تطوير إيران السلاح النووي.
إنه المنطق نفسه الذي ترفض إدارة بايدن بموجبه الربط بين الأموال التي ستنهال على "الحرس الثوري" عند رفع العقوبات عن إيران وبين سلوكه الإقليمي، بالرغم من اعترافها بفشلها في إيجاد الأدوات لإيقاف مشروع "الحرس الثوري" ووكلائه التخريبي في لبنان وسوريا والعراق واليمن ودول الخليج العربية.
رأي رجال إدارة بايدن ببساطة هو أن العقوبات على إيران تمّ فرضها لإيقاف تقدّم برنامجها النووي حصراً، وليس لأي سبب آخر. رأيهم أن لا داعي لعقوبات كبيرة ترافق الاحتجاجات لأن سياسة إدارة بايدن ليست سياسة تغيير النظام في طهران.
التعليقات