دخلت إيران أسبوعاً خامساً من "ثورة المرأة" الإيرانية التي كانت في البداية موجهة ضد إلزامية الحجاب على خلفية قتل شرطة الأخلاق التابعة لـ"الحرس الثوري" الفتاة مهسا أميني، لكن سرعان ما تحولت احتجاجات الساعة الأولى الى انتفاضة ضد أجهزة الأمن وتعاملها مع المواطنين، لتصبح في غضون ليلة واحدة ثورة شبابية مختلطة ضد النظام وأسسه الأيديولوجية والثقافية والقمعية.

في الأيام الأولى كان يعتقد أن اشتعال الشارع لن يدوم طويلاً وأن الاحتجاجات لن تلبث أن تتراجع أمام عاملي القمع "المحسوب" وتعب الشباب الذين ملأوا ساحات عشرات المدن وشوارعها من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب، لكن الشارع ظل على غليانه، وتوسعت حلقة التظاهرات وتفرّعت أكثر وباتت يوماً بعد يوم أكثر شمولاً، وتوسعاً، والأهم أنها أصبحت أكثر جرأة من أي وقت مضى. ولعل أهمية التظاهرات التي شاهدها ويتابعها العالم أجمع أن واجهتها هي عنصر الشابات والشبان، ومعظمهم لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين عاماً، وقد انضم اليهم كثيرون في جميع المدن الرئيسية التي وصل عددها في بعض الليالي الى 160 مدينة، وتنوعت مظاهر الثورة هذه المرة لكي تشمل قطاعات واسعة من المواطنين، حتى الذين لم ينزلوا مباشرة الى الشارع، نزلوا بسياراتهم ليتسببوا بعرقلة حركة سيارات الشرطة وقوات "الباسيج" التابعة لـ"الحرس الثوري".

ومن الملاحظ أن مظاهر تحقير النظام تسارعت بين حرق صور المرشد علي خامنئي والمؤسس الإمام الخميني والنصب التذكارية لقاسم سليماني، وحدة الشعارات التي ملأت الشوارع والشرفات المنزلية ووسائل النقل العام من حافلات ومترو الأنفاق والجامعات، وصولاً الى حرق مقار أمنية لقوات "الباسيح" هنا وهناك. كل هذا والثورة التي اشعلها مقتل مهسا أميني تكبر مع تزايد اعداد الضحايا الذين سقطوا برصاص "الباسيج" وبينهم العديد من الفتيات.

واللافت أيضاً الى ما سبق ذكره هو الجرأة، لا سيما جرأة النساء في تصدر هذه الثورة ما أعطى قوة دفع كبيرة لمن اعتمدوا تكتيك النزول الى الشوارع مساء كل يوم. إنما إطالة أمد الثورة تحتاج الى استقطاب أوسع من شرائح المجتمع الإيراني، وخصوصاً القوى المنتجة في البلاد، أي العمال وموظفي الإدارات والمؤسسات العامة، على سبيل المثال قطاع النفط. وإذا صحت الأنباء أن بعض منسوبي القوى الأمنية رفض تنفيذ أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، فهذا خبر إيجابي، لكنه يحتاج الى أكثر من مواقف معزولة عن الشريحة الكبرى لمنسوبي القوى الأمنية، وأعدادهم تتجاوز مئات الآلاف.

ماذا يعنى ذلك؟ إن الثورة حقيقية، وقد زعزعت النظام وأركانه، وكسرت حاجز الخوف، وضربت هيبة المؤسستين الدينية والأمنية، ولم توفر أهم رموز النظام من المؤسس الى المرشد. وهي فتحت كوة في جدار سميك، لكنه لا يزال صامداً. إنه جدار السلطة القائمة على تحالف المؤسستين الدينية والأمنية. لكن من المهم بمكان الإشارة الى أن هذا النظام قد يكون في طور الانكسار على المستوى الثقافي أمام ثورة شبابية تتجسد بتصدر المرأة الصراع مع نظام ولاية الفقية الذي يحتمل أن يتحول شيئاً فشيئاً الى ديكتاتورية عسكرية مع تراجع نفوذ المؤسسة الدينية التي يقودها رجال دين معظمهم تحوم حولهم شبهات الفساد، فضلاً عن أن القادة الكبار متقدمون في العمر، وينتمون الى عصر آخر فقد كل صلة بأحلام الشباب وطموحاتهم.

لا يمكن التغافل عن أثر الأزمة الاقتصادية في البلاد، فهي عميقة وصعبة جداً. ولا شك في أن العقوبات الدولية على النظام بسبب سلوكه فاقمت الأزمة. إنما أحد أسباب الأزمة الرئيسية أيضاً يكمن في الفساد الذي خلق هوّة هائلة بين معظم شرائح المجتمع وتلك التي تنتمي الى دوائر النظام بمختلف مؤسساتها ودرجاتها. ومعروف أن كبار رجالات النظام من الدينيين والأمنيين والسياسيين يمتلكون مع بيئات محيطة بهم ثروات خيالية تفوق الوصف، فيما معظم الشعب يعاني من عنف الأزمة الاقتصادية والمعيشية. وثمة جانب من الأزمة يهمنا ولا بد من الإضاءة عليه، ألا وهو تمويل إيران سياستها التوسعية في الإقليم العربي عبر ميليشيات منتشرة في العديد من الدول المحيطة بها. وهذه السياسة مكلفة، وخصوصاً أن الإنفاق العسكري الإيراني كبير مقارنة بحجم حاجات البلاد التنموية.

انطلاقاً مما تقدم ، لا يسعنا في هذه اللحظة ان نتنبأ بما ستؤول اليه الثورة الحالية التي تقودها المرأة الإيرانية. هي حقاً وجهت ضربة قاسية الى قلب النظام من خلال تحقيره في الشارع وفي الوعي الشعبي. و"ثورة الحجاب" لم تتوقف عند الحجاب، لقد أماطت اللثام عن ثورة ضد نظام ثيوقراطي أمني الطابع برمته. وفي حال جرى قمعها وإغراقها بالدم، فإنها ستكون حتماً محطة مهمة جداً على طريق أفول نظام بات بأسسه الأيديولوجية جزءاً من الماضي في وعي شرائح واسعة من الإيرانيين. إنها مسألة وقت.