بات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل جزءاً من حسابات الفرقاء اللبنانيين في إعادة تكوين السلطة بعد التجربة العونية التي انتهت إلى ما انتهت إليه.

إنه على الأقل جزءٌ من حسابات بعض الأطراف منهم «حزب الله»، لأنه يفتح الباب على عملية تقاسم المنافع وتوزيع أرباح الثروة الغازية والنفطية البحرية بين مكونات تلك السلطة، التي سيعاد تكوينها بعد انتهاء الولاية العونية التي فرضت تقاسماً حصل من خلاله بعض الفرقاء على فائض من المنافع يوازي فائض القوة الذي استندوا إليه. ذلك الفائض هو الذي أهدر ودائع اللبنانيين وتلاعب بها في عملية «بونزي» شاركت فيها الطبقة السياسية برمتها، وإن بتفاوت بين فريق وآخر، بعدما استنزفت أموال الدولة وهدرتها.

فرض اقتراب نهاية الولاية العونية المبكر مع انفجار الأزمة الاقتصادية المالية، وقائع سياسية جديدة منذ 17 تشرين العام 2019 هي التي مارس حيالها الفريق الرئاسي الإنكار الكامل المستمرة مفاعيله حتى اليوم، والتي ستستمر حتى 31 تشرين الأول. وهو إنكار مضاعف لدى «حزب الله» الذي رفض الانسجام مع ما فرضته انتفاضة اللبنانيين ضد عملية النهب التي تعرضوا لها، من حاجة ملحة إلى تغيير في تكوين السلطة السياسية، فتعاطى مع مطلب الثوار في حينها إجراء انتخابات نيابية ورئاسية مبكرة على أنه مؤامرة حاكتها السفارات. ونتيجة هذا الإنكار المزدوج من الفريق الرئاسي وحليفه «حزب الله»، للحاجة إلى إعادة تكوين السلطة هي التي أوصلت البلد إلى الجحيم الذي هو فيه من فلتان سعر الصرف واستمرار التهريب والتربّح من قبل كبار التجار وانخفاض واردات الدولة.

ليس صدفة أن يتأخر إقرار الإصلاحات المطلوبة في البنية الاقتصادية المالية والإدارية 3 سنوات. فأركان الطبقة السياسية أخذوا يستعجلون إقرار هذه الإصلاحات بالتزامن مع انتهاء الولاية العونية، وتراكضوا لتسريع التفاوض على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل على أبواب العهد الرئاسي الجديد، وللاستفادة من ظرف دولي جراء الحاجة العالمية للغاز الإسرائيلي للتعويض ولو جزئياً عن الغاز الروسي بعد حرب أوكرانيا.

لكن من الطبيعي ألا يمر مسار إعادة تكوين السلطة بانتهاء الولاية العونية بسلاسة، لسببين بسيطين: الأول أنه يصعب على الحالة العونية ترك مكاسب السلطة إلى حد الذعر من خسائر مغادرتها، ولذلك تطمح إلى الاحتفاظ ببعض مفاصلها في المعادلة الجديدة. أما السبب الثاني فهو خشية «حزب الله» من انعكاس تحمله مسؤولية تدهور الاقتصاد اللبناني وانهياره بعدما استفاد مثل غيره من الفرقاء من توزيع المغانم عبر النفوذ في المؤسسات، وبعدما أمسك بتلابيب السلطة في البلد عن طريق الحالة العونية، في سابقة لم يشهدها التاريخ السياسي للبنان ولموقع المسيحيين فيه فباتت الرئاسة ملحقة به إلى حد لم يسبق له مثيل حتى إبان الوصاية السورية.

ليس عن عبث أن دخل الحزب بقوة على مفاوضات الترسيم ليحجز لنفسه مكاناً في تقاسم منافع قطاع الطاقة (التي ما زالت سراباً وسمكاً في البحر) في مرحلة ما بعد إعادة تكوين السلطة بانتهاء الولاية العونية. فالحزب اعتاد الاطلاع على كل شاردة وواردة في القصر الرئاسي خلال العهد العوني بطريقة يصعب أن تتكرر مع العهد المقبل حتى لو كان له دور في اختيار سيد القصر، بعدما انفرد في اختيار عون.

من المتوقع أن يجرى استكمال مسار إعادة تكوين السلطة بتشكيل الحكومة الجديدة كي تدير مرحلة الفراغ الرئاسي، سواء كانت قصيرة أم طويلة، وللحزب حصة الأسد في صفتها الانتقالية، كونه المساهم في خفض الشروط الباسيلية من أمام ولادتها، فضلاً عن أنها ستكسبه رصيد الجهود التي بذلها، إذا نجحت في تثبيت قدرة ميقاتي على ترؤسها من دون نزاع دستوري على حقه في تولي سلطات الرئاسة الأولى.

الركن الثالث في إعادة تكوين السلطة هو، كما يرجح مصدر نيابي، إقرار ما تبقى من إصلاحات مطلوبة كي يجرى تثبيت الاتفاق معه وكي يحصل لبنان على المساعدة المالية من صندوق النقد الدولي.

أما الركن الرابع من مسار إعادة تكوين السلطة، أي انتخاب رئيس الجمهورية، فهو مرهون بالمساومات المحلية والدولية والإقليمية على الوجهة السياسية للرئيس العتيد، الذي من دون شراكة المجتمع الدولي والدور العربي في تحديد هويته والخطوات السياسية التي سيقدم عليها، قد يُحرَمُ لبنان حتى من مساعدة صندوق النقد. وهذا ما سيأخذ وقتاً على وقع التطورات الإقليمية. فهي التي ستحدد مدى اقتناع الحزب بأن «التوافق» الذي يدعو إليه على الرئيس لا يعني أن يوافق الفرقاء الآخرون على من يختاره هو، وأن التسليم بمعادلة «الجيش والشعب والمقاومة» من قبل الرئيس العتيد لم تعد ممكنة.