عندما تُنادي الأنظمة الشمولية، مثل النظام الإيراني، ب"المؤامرة الخارجية "، في تقييمها المعلن لثورة أجيالها الشابة، فهذا يعني أنّها وصلت الى قرار حاسم: إهراق دماء أبنائها، لإنقاذ نفسها.

ثورة "المرأة والحياة والحريّة" التي فجّرها قتل الشابة مهسا أميني، في "المعتقل الأخلاقي"، في السادس عشر من ايلول/ سبتمبر الماضي، أخذت أبعادًا مهمّة وجوهريّة ووجوديّة، فهي لم تبقّ، كسابقاتها من الثورات التي حملت شعارات سياسية( ٢٠٠٩) وشعارات اقتصادية ( ٢٠١٩)، محصورة بأمور ايرانية داخليّة، بل دخلت في عمق المسائل التي لها أولويّة في الاهتمام المجتمعي العالمي، حيث تأخذ حقوق المرأة وقضايا الحريّة ونوعية الحياة أولوية ثقافيّة وسلوكية مطلقة لدى الاجيال الشابة.

وخلافًا لما يتوهّمه "ملالي ايران"، فإنّ القمع الدموي الذي حصد حتى تاريخه اكثر من مائة ضحيّة وآلاف الجرحى والمعتقلين، لا يمكن، ومهما تضاعف، أن يستوعب "ثورة الحجاب"، لأنّ هذه الثورة لا تبني نفسها على صراع سياسي، بل على ثقافة انسانية تحرّرية لها ترجماتها السياسية.

وهذا يعني، لو توهّم متشددو ايران بقيادة مرشدهم الأعلى، بعدما أطبقوا على أدوات السلطة في الانتخابات "المعلّبة" التي بسطت سيطرتهم على الرئاسة والبرلمان، قدرتهم على "الانتصار السهل" في المواجهة الدمويّة ضدّ "قلّة مدسوسة"، فإنّ بنية النظام الايراني قد اصيبت بالإهتراء، وهي سوف تسقطه سقوطًا مروعًا إن لم يتدارك هذا النظام نفسه بسرعة، ويتخلّص من عقول متحجّرة تستمد نهجها من عصور الظلام.

وما لم يكترث له حكّام ايران الفعليون، بتسليمهم بلادهم كليًّا الى المتشدّدين، أقدم على عكسه ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان، عندما أبعد "الشرطة الدينيّة" عن يوميّات المواطنين والمقيمين الذين نالوا قسطًا وافرًا، وإن لم يكن نموذجيًّا، من الحريّة المجتمعيّة.

وهذا التغيير السعودي الذي لبّى رغبة عارمة عند الشرائح الشابة، جعل الالتزام بالدين والتقاليد الاجتماعية المبنيّة على مبادئه، خيارًا لا تزال الأكثريّة الساحقة من السعوديات والسعوديين تتمسّك به، ولكن ليس على قاعدة "الاضطرار " بل على قاعدة "الالتزام".

ولكن النظام السعودي، لولا ثقته بقوته ورسوخه وتطلعاته، لما كان قد أقدم على ما أقدم عليه.

وهذه الثقة هي التي يفتقد اليها النظام الايراني، اذ إنّه يدرك أنّ استمراريته ليست مضمونة بتعميم التحرّر الاجتماعي، فالايرانيون، أقلّه في العقد الأخير، أظهروا أنّهم، سواء كان ذلك على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، يعملون، بلا هوادة، على التخلّص من نظام لم يعد له مقوّمات وجود سوى تلك الأدوات التي كانت لدى الشاه، في السنوات السابقة لإسقاطه، أي القتل والقمع والاعتقال والتهجير.

وقد قدّم الايرانيون في "ثورة الحجاب" صورة أمينة عن المصير الذي ينتظرها للمجتمعات التي تحاول أذرع ايران نقل نموذج "حكم الملالي" إليها، الأمر الذي ستكون له انعكاسات مهمّة وأيجابيّة، في المستقبل القريب، بحيث تكبر القاعدة الرافضة للهيمنة الايرانية.

وعليه لم تعد مهسا أميني مجرّد ضحيّة لنظام يعيش على ظلال عصور الظلام، بل أصبحت أيقونة تضخ في الايرانيين شجاعة وتنذر الشعوب التي يتم تخديرها بشعارات أذرع ايران من مغبّة السقوط في "الفخّ القاتل".

يستطيع النظام الايراني الزعم بأنّ وراء الثورة المستمرة منذ إعلان مقتل "الأيقونة"،مؤامرة خارجيّة، ولكنّه لا يستطيع، في ضوء ادراك الجميع لطبيعته الحقيقيّة، القفز فوق تمنيات الأكثريّة الساحقة، ومن أجل التخلّص من نهجه الرديء، أن يدخل الخارج فعلًا على خط دعم الشعب الايراني، ويقلع عن التواصل مع النظام بهدف عقد صفقة جديدة معه، على حساب "المرأة والحياة والحريّة".