أقرأ في السيرة الذاتية للراقصة الأمريكية «إيزادورا دونكان» 1877-1927 التي كتبتها بقلمها، وصدرت ما سردته من قصص ومواقف ومحطّات في حياتها سطراً سطراً، وجملة جملة، بلا توقف بلا لهاث.. وأتساءل: هل هذه راقصة.. مجرّد راقصة؟؟ أم أنها روائية أو شاعرة أو فيلسوفة؟، وهي بهذا التدفّق السردي الحرّ الذي لا يخاف من البوح، والكشف عن حياة الذات البشرية بكل ما فيها من قوّة، وفي الوقت نفسه بكل ما فيها من ضعف.

«إيزادورا دونكان» ليست فقط راقصة؛ بل مثقفة كبيرة. مثقفة في الشعر تحديداً والمسرح، وعايشت وصادقت وعرفت الكثير من شعراء ورسّامي وموسيقي أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العشرين، ومنهم النحّات الأسطوري «رودان»، لكن الأهم من ذلك ثقافة دونكان الموسوعية في ما يتصل بالحضارات والثقافات القديمة والأدب القديم بكل أساطيره وواقعيّته وتحوّلاته من هوميروس إلى اوڤيد إلى دانتي وصولاً إلى مطالع الحداثة في الآداب والفنون منذ نهايات القرن التاسع.

هذه راقصة أيها السادة والسيدات. راقصة مذْ كانت في بطن أمّها، وفي مكان ما من سيرتها الذاتية بقلمها تقول «.. لقد ولدت في بيت على شاطئ البحر، ولاحظت أن كل الأحداث الجسام في حياتي حدثت بالقرب من شاطئ البحر. بالتأكيد وأتتني أوّل فكرة خَطَرت لي عن الحركة وعن الرقص من إيقاع الأمواج. وُلِدتُ أيضاً على ضوء نجمة أفروديت التي ولدت هي الأخرى على شاطئ البحر..».

لكن حقيقة إيزادورا دونكان أنها تعلّمت الرقص من شجرة، وتحديداً شجرة نخيل. ولأقل إن شجرة نخيل هي التي علّمت إيزادورا الرقص. وأصبحت أشهر راقصة في أوروبا وروسيا؛ بل والعالم في أول القرن العشرين، ويشار إليها دائماً بأنها أوّل من أسس مبادئ الرقص الحديث، باعتمادها الثقافي والفكري على أقدم أسس في الرقص، وهي أسس الفن اليوناني.

عاشت دونكان فترة من حياتها في النمسا في رعاية أحد الدّوقات النافذين والأثرياء، وذات يوم رأت نخلة أمام نافذة غرفتها، وكانت المرة الأولى التي ترى فيها نخلة تنمو في مكان معتدل كما تقول، المهم، أن دونكان أخذت تراقب تمايل أوراق النخلة مع نسيم الصباح المبكر، وتقول إنها ومن خلال تأمّلها لأوراق الشجرة، ابتدعت الارتعاش البسيط للأذرع في رقصها وللأيدي وللأصابع.. «.. الذي أساء المقلّدون استخدامه إلى درجة كبيرة، لأنهم يغفلون عن المصدر، ولا يتأملون حركة أوراق شجر النخيل، وأن عليهم أن يتلقّوها داخلياً قبل أن يؤدّونها..». وتقول إن ما سمّته «الأفكار الفنية» تتركها بينما هي تحدّق في تلك النخلة.