«أخذ بعض الصحبة يسألني بين وقت وآخر: أين سوق عكاظ؟ ما أخبار سوق عكاظ؟ ومبعث سؤالهم وسؤالنا عن مآل سوق عكاظ بعد أن غيبه وباء كورونا اللعين؛ هو غيابه لأربعة مواسم. غياب هذا السوق الأدبي الشعري التجاري العربي الكبير؛ الذي ظهر على أطراف الطائف قبل ألف وخمسمائة عام في عصر ما قبل الإسلام، ثم ظل قائمًا حتى السنة 129 من الهجرة النبوية الشريفة؛ يوم هاجمه القرامطة متطرفو عصرهم؛ فوأدوه وغيبوه؛ حتى استلم المهمة من بعدهم قرامطة العصر من ( الصحاينة المتطرفين )؛ الذين أبوا عليه أن يُعاد ويظهر من جديد، بحجة أنه سوق جاهلي شركي؛ حتى قيض الله له خادم الحرمين الشريفين ( الملك عبد الله بن عبد العزيز ) رحمه الله، الذي عزز مطالب أدباء ومثقفي هذه الدولة الرشيدة، فوقف إلى جانب عملية إحياء وبعث السوق من جديد العام 1427هـ، على يد الموفق محافظ الطائف الأسبق ( فهد بن عبد العزيز بن معمّر )، ليتولى رعايته بعد ذلك صاحب السمو الملكي الأمير ( خالد الفيصل )، أمير منطقة مكة المكرمة 12 عامًا.
وعندما حل وباء كورونا سنة 2020م، توقف المهرجان السنوي للسوق بطبيعة الحال، حاله حال كثير من المناشط الثقافية والاجتماعية، إلا أن وباء كورونا رحل منذ عامين، وظل سوق عكاظ غائبًا.
! « ثم يتجدد السؤال: أين سوق عكاظ؟
كنت في كل مرة؛ أحيل السائلين وأقول: اسألوا الجهات المعنية بسوق عكاظ، ولكن هل هي وزارة الثقافة؟ أم وزارة السياحة؟ أم جهة أخرى؟ أحببنا ذات يوم؛ تجديد العهد بسوق عكاظ المكان، فذهبنا إلى المقر الذي بدا خاويًا, الأبواب مقفلة، والمكان موحشٌ، ولا صوت إلا صفير الريح من حولنا.
جلسنا قبالة مبنى المسرح، نتذكر سنوات خلت قبل بعث السوق.
أخذنا نثرثر كثيرًا في قفر مدقع.
قال أحد الصُّحبة وهو يتذكر: يا سبحان الله.
كنا ونحن على مقاعد الطلب قبل أكثر من خمسة عقود؛ نخرج من الطائف إلى فضاء هذه الأرض.
إلى عكاظ الباحة الجرداء من شمال شرقي الطائف.
نقضي نهاراتنا بين هذه التلة وتلك، وبين هذا الجبيل وذاك الجبيل، وبين هذه الصخرة وتلك، نحاول جاهدين العثور على أثر مما تركه الشعراء في معلقاتهم عن هذا المحفل الشعري الثقافي الكبير.
« قال آخر: نعم.
كنا وكنا.
في حلم جميل، إلى أن بُعث سوق عكاظ من مرقده الذي دام ثلاثة عشر قرنًا، فصرنا نحتفل ونحتفي بعكاظ، حتى حل وباء كورونا.
كانت أرض عكاظ ومعالمه؛ تتحرك.
تنمو.
كانت تقول ما لم يستطع قوله البشر منذ ثلاثة عشر قرنًا.
من قال إن الأرض خرساء لا تعرف الكلام؟ جربوا أن تستنطقوا ( الأثيداء، والخَلص، والغِيران، وشِرب، والأخيضر )، وغيرها من المعالم الجغرافية على صعيد عكاظ.
إن كل حجر وشجر حولنا؛ ينطق بما كان عليه البشر في غابر زمان عكاظ؛ الذي كان منبرًا لشعر العرب وفصاحتهم، وسوقًا لتجارتهم وسباقاتهم، وهيئة إنسانية للمناصحة والمناصفة.
« قال ثالث: لنتذكر جيدًا؛ أنه بعد مئين من السنين؛ فاق العرب إلى حقيقة سوقهم الذي كان، فولِد السوق بعد مخاض عسير جدًا، في ظل غياب جملة من الحقائق التاريخية.
هذا الغياب أو التغييب، هو الذي أخّر بعث سوق عكاظ من رماد التاريخ.
لم يكن سوق عكاظ جاهليًّا محضًا كما يحاول البعض تصويره لغرض في نفسه.
ولد السوق في العصر الجاهلي بسنوات لم يتفق عليها المؤرخون، ثم ظل قائمًا في الإسلام 129 عامًا.
هذه حقيقة أولى مهمة.
« الحقيقة الثانية: أن منشأ سوق عكاظ على مقربة من مكة لم يكن لولا الحج، فهو إذن قد ارتبط منذ البدء بشعيرة دينية، فالظرف الديني أوجده على ملتقى طرق الحج الجنوبية والشرقية والشمالية، ثم تنوعت بعد ذلك وتعددت أغراضه وأهدافه.
« الحقيقة الثالثة: أن لا أحد في زمن الرسول- صلى الله عليه وسلم- ولا في زمن الصحابة أو التابعين أو من جاء من بعدهم إلى سنة 129هـ؛ كان ينتقد السوق أو يدعو لوقفه، فالرسول- صلى الله عليه وسلم- وقف به أكثر من ست مرات في الجاهلية وفي الإسلام، وفعل عمر بن الخطاب والصحابة رضوان الله عليهم.
وغيرهم من التابعين.
« الحقيقة الرابعة: أن وقف السوق سنة 129هـ؛ كان على أيدي فئة متطرفة ضالة هم الحروريون الخوارج، فيا سبحان الله.
يوقف السوق قبل ثلاثة عشر قرناً بفكر متطرف، ويُجْبه بعثه في زمننا بفكر متطرف.
« إن بعث سوق عكاظ من مرقده الذي دام عدة قرون، يشي بوعي حضاري متميز لدولة ناهضة، ومجتمع راق.
وعي كامل بقيمة هذا الرمز الشعري والثقافي الذي كان يُجمع عليه العرب، ويعرفه ويرتاده العجم.
« على مدى اثني عشر عامًا، مثّل سوق عكاظ قيمة ثقافية وتاريخية تضاف إلى قيم السعوديين والعرب، وهو الذي أخذ منذ البدء؛ يبحث عن الريادة الشعرية والفنية في شاعر عكاظ، وعند الشعراء الشباب، والمصورين، والرسامين، والمبدعين في كل ميدان؛ يبحث عن التميز في دنيا الشعر والأدب والثقافة على مستويات عالمية، ولهذا.
كان عكاظ يسير على طريق الإثراء المعرفي، ويرفع من القيمة الثقافية للعرب بشكل عام.
« ومما ميّز النسخ السنوية لمهرجان سوق عكاظ التي شهدناها قبل توقفه؛ أنه كانت توجد فوارق واختلافات كثيرة في كل نسخة سنوية، كنا نلمس تراكمات جديدة من الخبرات الواعدة في التنظيم والإدارة وتنوع الطرح، إلى جانب التوسع في بناء البنى التحتية، التي تصل بنا في النهاية إلى مدينة ثقافية وسياحية اسمها عكاظ، تستمد قوتها من مكان عكاظ، ومن مكانته على حد سواء، وتجعل من عكاظ في المستقبل؛ مهرجانًا لكل المواسم، ولكل الأطياف، وليس الذي يفتح أبوابه مرة واحدة في العام، ثم يقفلها بعد أسبوعين.
« خلاصة الثرثرة الثقافية العكاظية: ما الجهة المسؤولة عن فعاليات سوق عكاظ اليوم بعد كورونا؟ وهل سوف يعاد مهرجان السوق؛ فنشهده هذا العام من جديد؟ أفيدونا حتى لا ننسى سوق عكاظ.
التعليقات