خالفت الإنتفاضة التي أطلقتها نساء إيران كلّ التوقعات، ونجحت في أن تفرض نفسها حدثًا دائمًا ومتألّقًا، منذ السادس عشر من أيلول/ سبتمبر الماضي، بعدما تمدّدت في اتّجاه غالبيّة القطاعات في البلاد!

ولم تخيّب هذه الإنتفاضة آمال جميع من جازفوا وراهنوا عليها، فكشفت الخلل الكبير في النظام الإيراني الذي طالما حاول إخفاءه من خلال الدعاية والقمع وتصدير الأزمات الى دول الجوار.

وعلى الرغم من أنّ النظام اعتمد في البداية "استراتيجيّة التعتيم" إلّا أنّ العمق الثقافي والاجتماعي لهذه الانتفاضة وتألّقها في الخارج، جعله يتخلّى عن هذه الاستراتيجية، محاولًا الاستعانة بنظريات المؤامرة، من جهة وبتنظيم "داعش" من جهة أخرى، علّه يستطيع أن يُبرّر قمعه الذي أسفر عن مئات الضحايا وآلاف المعتقلين.

ولكنّ "الدعاية" التبريرية التي يتوسّلها النظام الإيراني لم تستطع الصمود، على الرغم من تكثيفها وتصعيد وتيرتها، لأنّ المراقبين يعرفون أنّ معظم الحكومات في العالم، تحاول، بقدر ما يسمح لها به الرأي العام، أن تتغاضى عن هذه الإنتفاضة، ولأنّ تنظيم "داعش" الذي لا يُظهر إرهابه في إيران إلّا نادرًا جدًّا، وفي الأوقات التي تلائم النظام، يحمل النهج نفسه الذي يستهدفه الغضب الإيراني عمومًا وثورة النساء والطلّاب خصوصًا.

وفشل النظام أيضًا في استثمار "انتقاء" عدوّ عربي، من خلال تصويبه على دور مزعوم للملكة العربيّة السعوديّة، بعدما اتّضح أنّ جلّ ما هو مطلوب من القيادة السعوديّة أن تتواطأ مع حكّام إيران لإسكات وسائل الإعلام في الإقليم والعالم عن انتفاضة الشعب، من جهة وعن منهجيّة القمع، من جهة أخرى.

وعلى الرغم من كل الدعوات الداخليّة إلى وجوب استبدال الإصلاح بالقمع، إلّا أنّ النظام الإيراني يبدو أعجز من ذلك، إذ إنّه، ومنذ نجح في التخلّص من أوّل رئيس للجمهوريّة بعد الثورة، أبي الحسن بني صدر، سلّم الدولة ل"الدولة العميقة"، أي الملالي الذين تتعمّد مجموعات ثوريّة مطاردتهم في الأحياء والشوارع والأزقة من أجل "نزع عمائمهم".

ولم يستطع الملالي تأليب الرأي العام الإيراني على المنتفضين، بإلصاق تهمة الكفر بهم، إذ إنّ الجميع في إيران على قناعة تامّة بأنّ الثورة ضد الحجاب والعمائم ليست ضد رمزين دينيّين، بل ضد تحوّل هذين الرمزين، بفعل الإستثمار النفعي، إلى رمزين سياسيين.

وخلافًا لما يتمّ زعمه بأنّ أكثريّة الإيرانيين يدعمون النظام في مقابل أقليّة تدعم الإنتفاضة، تبيّن الوثائق الإيرانيّة أنّ مؤيّدي النظام، في هذه المرحلة، لا يتخطّون العشرين في المائة، في حين أنّ أكثريّة الإيرانيين الساحقة تلتزم الصمت...الناطق معارضةً.

وهذا الصمت تفسّره مراكز الدراسات الإيرانيّة بأنّه "تأييد ضمني" للإنتفاضة.

وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة "آرمان ملي" قال المفكر والباحث الإيراني بيجن عبد الكريمي، إنّ "أغلب النخب السياسية في إيران تستمر حتى الآن بالتزام الصمت حيال ما يجري من أحداث في البلاد. واللافت في صمت هؤلاء أنهم كانوا محسوبين على التيار المؤيد للسلطة وخطاب الثورة، وبالتالي فإنّ صمتهم يعني أنهم مؤيدون للاحتجاجات الجارية، وسلوكهم هذا يُفسّر باعتباره نوعًا من الغضب تجاه خطاب السلطة الحاكم، وهذا يفيد بأنّ الشريحة الرمادية قد تنضم إلى الاحتجاجات في أيّ لحظة".

بناء على هذه اللمحة الموجزة عمّا تزخر به "بنوك المعلومات"، يتّضح أنّ النظام الإيراني بات أمام خيار من إثنين، إمّا تغيير سلوكه أو تصعيد القمع إلى مستوى ارتكاب مجازر.

ولكن لماذا لم يختر، حتى تاريخه، واحدًا من هذين الخيارين؟

لأنّه، وفق باحثن إيرانيّين، عاجز، في هذه الطروف، عن ذلك، فهو إن اختار تغيير سلوكه وقع في قبضة من يريدون إزاحة "حكم الملالي" لمصلحة "حكم المؤسّسات"، وهذا بالتحديد ما سعى إلى منعه المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي، عندما رعى تسليم رئاسة الجمهورية والبرلمان إلى المتشدّدين، وهو إن اختار اعتماد المجازر، فسوف يكون مصيره، في أفضل الأحوال، مثل مصير حليفه بشّار الأسد.

ومهما كان عليه الأمر، فإنّ الإنتفاضة الإيرانيّة التي سلّطت الضوء على طبيعة النظام المتشدّد وعلى آلياته السلطويّة التي ألقت أكثر من ثمانين بالمائة من الإيرانيّين تحت خط الفقر، قدّمت لشعوب الدول التي يحاول "الحرس الثوري الإيراني" عبر أدوات محليّة الهيمنة عليها، نموذجًا عمّا يجب وأده قبل أن يتجذّر.