تُكلف إحدى الدول باستضافة قمة ما، فتجد نفسها في حرج شديد، في حال وقوع حدث خطير (كالحرب) بين دولتين أو أكثر من الدول المفترض دعوتها، فإن دعت هذا الطرف ولم تدع الآخر اتهمت بالانحياز، وإنْ دعت الطرفين معاً خافت من اصطدامهما في القمة فتفشل.

كان هذا حال إندونيسيا، مستضيفة القمة الـ17 لمجموعة العشرين التي انعقدت أخيراً بجزيرة بالي، والتي بذل رئيسها جوكو ويدودو، جهداً خارقاً كي يتفادى فشلها في ظل التباين الحاد في مواقف ضيوفه من الصراع الدائر حول أوكرانيا. تعرض ويدودو، طوال الأشهر الماضية، لضغوط أمريكية وغربية لإقصاء روسيا من القمة، لكنه قاومها بنجاح بمساعدة الصين والهند والبرازيل وأعضاء آخرين، ومع ذلك ظل يخشى تحولها إلى ساحة حرب إنْ تواجه فيها الرئيس الأمريكي جون بايدن ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، فأعفاه الأخير من الحرج والفشل بغيابه وإيفاد وزير خارجيته سيرجي لا فروف، ممثلاً عنه.

يراهن المراقبون دوماً على اللقاءات الثنائية التي تسبق انعقاد القمم أو تلك التي تعقد على هامشها، بل يرى بعضهم أنها أجدى وأنفع من القمة نفسها، لا سيما بين الأطراف المتنافرة سياسياً وأيديولوجياً أو بين الزعماء الذين لا تجمعهم كيمياء شخصية. فبعيداً عن صخب القمة وفلاشاتها وخطبها، يمكن في أحايين كثيرة أن تنجح اللقاءات الجانبية في صنع اختراق في العلاقات أو إحداث حلحلة في الأزمات المستعصية أو على الأقل التمهيد لذلك.

وهذا ينطبق أيضاً على قمة بالي، التي انعقدت في ظل اقتصاد عالمي هش هدّه الإعياء بسبب جائحة كورونا، وحرب أوروبية أوروبية غير مسبوقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، ومخاوف من استنساخها في القارة الآسيوية، وأزمة ديون وتضخم متفاقمة، ومشكلة مناخ مستعصية، دعك من أزمة إمدادات الغذاء والطاقة وهواجس استخدام السلاح النووي في الحرب الأوكرانية، ففي ظل هذه الأجواء الكئيبة عقد لقاء ثنائي بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الصيني شي جينبينغ هو الأول بينهما منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض ومنذ أن انحدرت العلاقات الأمريكية الصينية إلى أدنى مستوياتها. اللقاء شد انتباه المراقبين أكثر من القمة نفسها وأكثر من اجتماعات ثنائية أخرى لقادة بين دولهم خلافات وتوترات مثل الصين وأستراليا، خصوصاً وأن بايدن حضره منتشياً بحصول حزبه الديمقراطي على أغلبية مقاعد مجلس الشيوخ الأمريكي، بينما حضره جينبينغ منتشياً بتكريس زعامته للصين مجدداً. صحيح أن مثل هذه اللقاءات لا تحسم الأمور الخلافية لكنها تخفف من حدها وتعطي أملاً في منع تفاقمها، بدليل ما صدر عن لقاء الزعيمين من تأكيدات حول صيغة للتعايش والتنافس دون الانجرار نحو الصدام العسكري.

لم يقل أحد أن قمة مدتها يوم واحد يمكن أن تؤسس نظاماً عالمياً بديلاً لنظام الأحادية القطبية المتهالك، حتى وإنْ جمعت تحت سقفها أكثر الدول الفاعلة جغرافياً وديموغرافياً واقتصادياً وعسكرياً وصناعياً وبما يجعلها في مقام «مجلس إدارة العالم». وبالمثل، لم يزعم أحد أن بياناً مشتركاً سوف يصدر عن القمة باتفاق الآراء حول ما يجب عمله وما لا ينبغي فعله لإبعاد شبح الحروب والصراعات وتعزيز السلام. فالتجربة تقول إن المؤتمرات قد تسير سيراً حسناً، وإن ضمت تحت سقفها الأضداد، لكن ختامها قد يشهد صدامات واتهامات وخلافات بسبب صياغة البيان الختامي، ثم مساومات حول إضافة أو حذف كلمة من هنا ومفردة من هناك.

وهو أيضاً ما شهدته قمة بالي، إذ حدث ما كان متوقعاً من تباين في المواقف حول مضمون البيان المشترك بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة من جهة وروسيا الاتحادية من جهة أخرى، الأولى تصر على عبارات تدين روسيا في حربها مع أوكرانيا والثانية ترفض قائلة إن التنديد بها تسييس لا جدوى منه، على نحو ما قاله لافروف قبل مغادرته القمة مبكراً، حينما رفض مصطلح الحرب لوصف ما يجري في أوكرانيا، قائلاً إنها «عملية عسكرية خاصة».

وأخيراً، جرت العادة أن تلعب الدول المضيفة دور حمامة السلام لجهة تقريب وجهات النظر بين ضيوفها للخروج ببيان برغماتي مخفف يرضي الجميع، وهو ما نجحت فيه إندونيسيا التي حاول زعيمها منذ اليوم الأول التأكيد على المشتركات الكثيرة وتجاهل الحديث عن القضايا الخلافية. وقد تجلى ذلك بوضوح في كلمته الافتتاحية التي تضمنت كلمة «حرب» دون الإشارة إلى روسيا أو أوكرانيا. فقد خاطب ضيوفه قائلاً: «يجب علينا إنهاء الحرب. إذا لم تنته الحرب، فسوف يكون من الصعب على العالم المضي قدماً. يجب ألا نقسم العالم إلى أجزاء، وألا نسمح للعالم بالوقوع في حرب باردة أخرى»، قبل أن يركز بقية كلمته على قضايا اقتصادية بحتة تشغل الجميع. في المحصلة النهائية، يمكن القول إن القمة نجحت، على الأقل، في تفادي الأسوأ، وإن إندونيسيا أجادت السير وسط حقول الألغام ونزعت فتيل مخاوف ترددت حول احتمال تفكك المجموعة وإعلان وفاتها، في وقت كان فيه البعض يطلق دعوات إلى تغيير نظام الانضمام إلى المجموعة بحيث يُعاد تقييم اقتصاد الأعضاء دورياً، ما يسهل خروج دول وإحلال أخرى مكانها.