في كل مجتمع ولدى كل أمة أكثر من تاريخ. لن نتحدث هنا عن التواريخ الفرعية؛ أي تلك الخاصة بتاريخ عرق أو قومية أو طائفة أو منطقة ما في مجتمع من المجتمعات، حين يعتني بعض المهتمين بالتاريخ بدراستها، وفي الكثير من الحالات يكون هؤلاء الدارسون من المنتمين إلى أصحاب تلك الهويات الفرعية، محمولين على الرغبة في إبراز ما يرونه صفحات تخصّ تاريخ الجماعة أو المنطقة التي ينتمون إليها، ولكنها مغيبة عن التاريخ الجمعي بقصد أو بدون قصد.

قد تكون دوافع مثل هذا الاهتمام بكتابة التواريخ الفرعية منطلقة من الرغبة في إثراء التاريخ الجمعي للبلد الذي يضمّ مكوّنات مختلفة، وقد تكون نابعة من الرغبة في تسليط الضوء على مظالم أو أوجه تهميش لحقت بالجماعة المعنية أو بالمنطقة المعنية، وقد تكون هذه الدوافع منطلقة من الرغبة في إبراز خصوصية التاريخ الفرعي المعني، تمهيداً للقول إن أهل هذا التاريخ الفرعي هم خارج التاريخ الجمعي، وإن من حقهم الانفصال عنه.

على هذا قد يصحّ القول إننا إزاء تواريخ متوازية، منها يتشكل التاريخ الجامع. فهذه التواريخ تمت في نفس الوقت، حتى لو كانت هناك أوجه اختلاف وخصوصيات بينها، لكن هناك ما يمكن أن نطلق عليه التواريخ المتتالية، علماً بأن التاريخ العام هو مجموعة تواريخ متتالية، ولكن ما نعنيه هنا هو بالتتالي، هو أن كل مرحلة تاريخية قد تكون في طبيعتها وجوهرها مناقضة لما سبقها ولما يليها، فلسنا إزاء تاريخ واحد من الطينة نفسها.

لعلّ هذا ما ينبّهنا إليه مؤلف كتاب «في مدح الحب»، الفرنسي آلان باديو، الذي ولد بالمناسبة في مدينة الرباط في المغرب عام 1937، في حديثه عن تاريخ فرنسا، رافضاً تنميط هذا التاريخ في مقولة إن فرنسا بلد الثورات والتنوير.

ففرنسا من وجهة نظره وبمقدار ما هي بلد الثورات، فإنها بلد «الرجعية العظيمة» أيضاً، حسب وصفه. ومثل هذا الفهم هو ما يتيح معرفة فرنسا «ديالكتيكاً»، والوصف هنا له أيضاً.

يقول المؤلف إن أصدقاءه الأجانب «يحملون تقديراً لأسطورة فرنسا الرائعة التي تقف على حافة الاختراعات الثورية»، لكنه ينبّههم إلى أن فرنسا عصر التنوير والثورة وكومونة باريس ومايو 1968، هي نفسها بلد مسيرات فرساي، والحروب الكولونيالية الشنيعة، وغير ذلك.