دراسات العلوم الاجتماعية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن لا وجود لمجتمع متجانس بشكل مطلق، وأن هذا المجتمع الطوباوي - إن وجد - فإن ذلك ليس من سمات العافية، بل إن مجتمعا كهذا لا يُمكن أن يقدم شيئا للبشرية؛ لأنه سيكون حتمًا منغلقا على نفسه مكتفيًا بسردية النقاء والتجانس منكفئًا على ماضيه عاجزًا عن الانفتاح على المستقبل. وليس في هذا القول شيء من التنبؤ؛ لأن قدر البشرية أن تتطور في ضوء تناقضاتها واختلافاتها، ولهذا فإن أي مجتمع إنما يكون قائمًا على التنوع والتعددية والتغاير، وضمن هذا الإطار تتشكل الرؤى والأفكار وتنبني القناعات الفردية والجمعية، وتنتظم التيارات الاجتماعية متناقضة المصالح والأهواء، وهنا تظهر الاختلافات المطلوبة وتعدد زوايا النظر، وبالتالي يكون من غير المقبول استخدام المفردات القطعية التي يتفنن المؤدلجون في إطلاقها؛ لأن جوهر هذه المفردات القطعية، التي تزعم امتلاك اليقين والحقيقة كاملة، إقصاء الآخر المختلف، وإعلاء من شأن الرأي الفرد، واختراق صارخ لقوانين الاجتماع.

في ظل التيارات الاجتماعية المتناقضة المصالح والأهواء، يبحث أفراد المجتمع عن وحدة مجتمعهم التي ينبغي أن يزيدها التنوع ثراءً لتتحد، وليس لتنقسم وتتشتت، ومن هذه الوحدة يستمد هذا المجتمع أو ذاك ديمومة تطوره، وانعتاقه من أسر الواحدية الفكرية التي يحاول البعض من كل فكر أو أيديولوجيا أو دين إيجادها عبثًا. وحري بالمجتمعات التي تتحلى بالتنوع الإثني والعرقي والمذهبي أن تتباهى وتتفاخر بتنوعها، ومجتمعنا البحريني واحد من هذه النماذج المجتمعية التي ينبغي عليها أن تستثمر هذا الخليط المذهبي والعرقي بإيجابية للنهوض بالوطن الواحد الجامع للكل، وترفد برامجها الاجتماعية والثقافية والفكرية من معين هذا التنوع؛ لأننا بذلك نراكم على ما غرسه الآباء والأجداد من قيم العيش المشترك والتسامح والاحترام، لنصل معًا إلى ذروة مبتغاهم في تأسيس مجتمع السلم والمواطنة والحق في الاختلاف والرفاه.

وفي رأيي أن أولوية الأولويات في التنشئة الاجتماعية ضمن الأسرة وفي المدارس وفضاءات العيش المشترك من دور عبادة ومسارح ونوادٍ... التربية على الحوار وعلى احترام الحق في التنوع أو إن شئنا الدقة التربية على تفكيك الأفكار التي حاول إدخالها عنوة على مجتمعنا سدنة المذاهب الطائفيون المشتغلون بالسياسية وفشلوا بعد تبين تهافتها وضعف تماسكها وخطرها على مبادئ العيش المشترك والحق في التنوع والاختلاف، خاصة أن سدنة هذه الأفكار الوافدة على المجتمع البحريني لا يتورعون أبدا عن إلغاء الآخر ودحره في جحيم معاناة مصطنعة لا مسؤولية له فيها.

إن خطر الإسلام السياسي بكل تلويناته لا يكمن في رجعية المناويل السياسية والتنموية والحضارية المقترحة فحسب، وإنما أيضا في تكريسه منطقا طائفيا نابذا للآخر مستهينا بالوطن لصالح الإيديولوجي، كما يكمن خطر الإسلام السياسي في تحوله أيضا إلى معول حاد يمسكه معتوه متطرف ليُعمله في كل ما من شأنه أن يقوض قيمة احترام التنوع والحق في الاختلاف التي وجدناها إرثًا عظيمًا خلفه لنا الآباء. ولذلك فمن المعيب حقا أن يتهاون أبناء اليوم في التمسك بهذه القيم النبيلة لضمانة نقل هذا الإرث إلى أبناء الغد لمواصلة البناء عليه... وهكذا دواليك حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

للمحافظة على السلم الاجتماعي الضامن الأساسي للتنمية الشاملة ينبغي على مؤسسات المجتمع احترام التنوع باحترام الرؤى المتشكلة في بيئتها، ذلك أن الرؤى، من حيث هي وعاء لمجموعة الأفكار المتجمعة المتبناة من مجموعة من الناس عبر اجتياز خبرات وتجارب حياتية، يرتبط تشكلها وتبلورها بظروف ومتغيرات زمانية ومكانية ونفسية. فالرؤى، بهذا المعنى، تتصف بأنها متحولة وغير ثابتة، وحيث إن الزمن في حالة تدفق غير منقطع عن المكان بصفته حيزًا تتفاعل فيه العناصر المكونة للمجتمع، فإن الغرابة لتبدو في ثبات رؤى الناس وليس في تحولها انسجامًا مع المتغيرات التي تجري في المجتمع. إن وتيرة التنمية تتسارع على الصعد كلها في المجتمعات التي تنأى بنفسها عن التحرشات الطائفية والمذهبية، إلا مجتمعاتنا العربية الخانعة لمسلماتها الاجتماعية وقيمها التي تحقر الرأي الآخر وتراه منحرفًا! فهي تأبى أن تتحرك في الاتجاه ذاته، وتصر على إخضاع المختلفين تحت رحمة متبنيات أفكارها، لماذا؟ لأن لها، في ظني، أولويات، يتصدرها وهم الخلاص من الآخر الوطني ونحر فكرته المختلفة.

خلاصة القول هنا، هو أن المعبر عن مكنونات الأفكار، التي نطلق عليها رؤية الفرد إلى المجتمع والكون هو الرأي، فإذا ما سفّهنا هذا الرأي فما الذي يتبقى لنحترم؟ ونضيف إنه إذا ما تأسست قناعة احترام الرؤى المختلفة في المجتمع، فإن ذلك يقود حتمًا إلى إعطاء صاحب الرؤية حقه في إبداء رأيه انطلاقًا من رؤيته، لا مما يفرض عليه، وهذا لن يكون متحققًا إلا في حاضنة التسامح، وهو من وجهة نظري ذخيرتنا المجتمعية التي نتناقلها عبر الأجيال لبناء مستقبل بحريننا.