إقتضت المساومة أن ينخفض سقف المنازلة التي ذهب إليها رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، أن يكتفي بإيكال مهمة التصدي له إلى وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار الذي ملأ غرفة مجلس الوزراء صراخاً في وجه ميقاتي، في شكل استدعى غضب وزراء على الطاولة رأوا في الضجيج الذي افتعله في الهجوم على رئيس الحكومة انحداراً إلى مستوى شارعي، فأسكته أحد الوزراء المقربين من «حزب الله» بعدما كاد الأمر يخرج عن المألوف، جراء غضب العديد من الوزراء، ناصحاً إياه بالهدوء. هكذا تابع حجار حضور الجلسة بعد الصراخ والتمادي في إبلاغ ميقاتي أنه لا يحق له ترؤس الجلسة الحكومية والدعوة إليها. ولم يكتفِ بالبقاء في الاجتماع، فوقع على مرسوم صرف اعتمادات لوزارته، إلى جانب توقيع ميقاتي، خلافاً لإعلان رئيسه النائب جبران باسيل أن هذا مخالف للدستور، واعداً بالطعن بالمراسيم التي صدرت في شأن القرارات المتخذة.

قد تكون المساومة اقتضت ألا يرد ميقاتي على تصريح باسيل في اليوم التالي، حين وصفه بأنه يعمل عند «مشغّليه»، أي «حزب الله»...

واقتضت المساومة أن يكتفي باسيل ونواب «التيار الحر» بتقليص عدد الأوراق البيض من 52 إلى 39 في الجلسة النيابية التي انعقدت أمس، بعدما ملأت التسريبات الصادرة عن أوساط قيادته الفضاء الإعلامي بالحديث عن الاتجاه نحو تصويت هؤلاء النواب لمرشح يختارونه، سواء من الكتلة أو من غيرها، ومنهم من لم يستبعد تصويت جزء من نواب الكتلة للنائب ميشال معوض نكاية برئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، أو بإصرار «الحزب» على مواصلة دعمه.

جاء رد التيار العوني خلال الجلسة النيابية منضبطاً قياساً إلى ما يقوله قياديوه عن انحدار العلاقة مع الحزب واكتشافهم صعوبة إقناع بيئة التيار باستمرار التحالف معه. فهؤلاء يقولون إن هذه البيئة تعاجلهم بالسؤال: «هل ما زلتم تصدقونهم»؟ فالمشكلة بين قسم من جمهور «التيار» وبين قيادته حول استمرار تحالف مار مخايل ما زالت تساهم في تآكل قاعدة هذا الجمهور، كما أظهرت حصيلة ثورة 17 تشرين ثم النقمة على الانهيار المالي والمعيشي... ثم الانتخابات النيابية، ما اضطر «الحزب» لأن ينزل إلى حلبة دعم مرشحي الحليف العوني لإنجاح أكبر قدر ممكن من مرشحيه في مواجهة مرشحي حزب «القوات»، أو غيره من المسيحيين المعارضين للعونيين، فنفخ عضلات باسيل أكثر من نفخه لعضلات ميقاتي، إلى درجة هجينة.

أنهت اتصالات الليل، ونصائح بعض نواب تكتل «لبنان القوي»، العنتريات التي تجلت في تصريحات باسيل وتهديداته. حتى التلويح من قبل بعض أوساط التيار العوني بحضور الجلسة النيابية في الدورة الثانية لانتخاب الرئيس، والإقلاع عن المشاركة في إفقادها نصاب الثلثين، جرى التراجع عنه. ومن المؤكد أن البيان الذي صدر عن «العلاقات الإعلامية» في الحزب صباح أمس باسم «حرصنا على الصداقة»، ساهم في مراجعة حسابات باسيل في شأن تهديداته.

واقع الأمر أن باسيل تناسى أنّ تهديداته ونبرته العالية في السابق كانت تستند إلى اتكاله على عضلات «الحزب» التي لا يمكنه أن يستخدمها ضد صاحبها. التبس الأمر على الرجل وسبقه لسانه، وهو مضطر للتراجع الذي صار معتاداً عليه. فلا ملاذ آخر لباسيل في تحالفاته بعدما حرق المراكب مع الفرقاء الآخرين بعقله الإلغائي سواء على الساحة المسيحية أو في العلاقة مع المرجعيات السنية، أو الزعامة الدرزية. ومعارضة خيارات «الحزب» الرئاسية وصولاً إلى التصويت لمرشح من خصومه، هي خرطوشة لا يتم التهديد بها إذا كانت غير مضمونة النتائج. فلأي افتراق عن «الحزب» ثمن يجب أن يحصل عليه باسيل، في المقابل، لا يبدو متوفراً في الظروف الراهنة. فلا قدرة لدى رئيس «التيار الحر» على ضمان موقع أفضل من ذلك الذي بإمكان «الحزب» أن يوفره له مع الرئيس العتيد، وليس هناك ما يؤشر إلى أنه قد يحصل على رفع العقوبات الأميركية عنه في هذه الحال، على رغم كل ما يقال عن سعي قطري لمساعدته على إزالته عن لائحتها. وكل ذلك يعني أن تهديداته ولدت ميتة.

أمّا من ناحية «الحزب» فليس لديه تحالفات تحل مكان «التيار الحر» على الساحة المسيحية. هو الآخر عالق بصلته معه ومضطر إلى مراعاته على أن يقر بأن مصدر قوته منه وليس من إمكاناته هو.