أولى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان اهتمامًا بالغًا بقضايا البيئة منذ أن كانت البيئة مصطلحًا غير متداول كما اليوم. وخلال فترة حكمه للمنطقة الشرقية من أبوظبي والتي بدأت عام 1946م، أي قبل أن يتولى حكم إمارة أبوظبي عام 1966 ويترأس دولة الإمارات العربية المتحدة عام 1971، انشغل رحمه الله بالزراعة ووضع نصب عينيه تحويل بلاده إلى جنة خضراء وتحقيق الإكتفاء الذاتي في الخضروات والحبوب على الأقل، وذلك ضمن خطط التنمية الوطنية المتتالية. فهو القائل: «أرني بلدًا يتمتع بقاعدة زراعية قوية، أريك بلدًا قويًا راسخًا».
ومن هذا المنطلق تمّ تأسيس المؤسسات والهيئات الخاصة لإدارة وحماية البيئة وتحديد أولويات العمل البيئي مثل مكافحة تلوث الهواء وتلوث الماء ومكافحة التصحر وترشيد استهلاك الموارد الطبيعية واستصلاح الأراضي الزراعية الجديدة، وبناء الأفلاج، وإنشاء القنوات، وتوفير المياه دون مقابل، ومحاربة أسراب الجراد التي كانت تمثل مشكلة كبيرة، وحظر الصيد في إمارة أبوظبي منذ العام 1977. ومن خلال هذه الجهود والسياسات الحكيمة، تحققت معجزة زراعة الصحراء والتي تعتبر أحد الإنجازات الخالدة للشيخ زايد، حيث تمّ ترويض الصحراء وطبيعتها القاسية وحرارتها العالية لتتحول ما كان أرضا قاحلة إلى رقعة خضراء.
وبعد قيام الكيان الاتحادي واصل الشيخ زايد اهتمامه بالبيئة والزراعة وعممها، بدليل أنه وجه حكومة أبوظبي في عام 1977 بإطلاق خطتها التنموية الثلاثية الأولى بمبلغ 24 مليار درهم، تمّ تخصيص نحو ستة مليارات منها لتطوير القطاع الزراعي ومرافقه. وفي الوقت نفسه شدد سموه على أن تحذو الحكومة الاتحادية حذو أبوظبي في هذا المجال، فتعمد إلى تطوير القطاع الزراعي تطويرًا مستدامًا بقدر ما تسمح به الظروف الطبيعية، فتأسست وزارة الزراعة والثروة السمكية التي عهد بحقيبتها إلى سعيد الرقباني (تم إلغاؤها واستبدالها بوزارة البيئة والمياه عام 2006).
ذكر الوزير سعيد الرقباني في كتابه «زايد رجل بنى أمة» الصادر عن الأرشيف الوطني في الإمارات أنه «في فترة الستينات، وحتى إذا أخذنا في الحسبان الزيادة التي شهدتها المساحات الزراعية في أبوظبي بعد تولي الشيخ زايد الحكم، لم تتجاوز نسبة الأراضي المزروعة أو المستصلحة للزراعة 1% من أراضي الإمارة، وفي عام 1977، كانت المزارع والغابات المشجرة تشكل ما يقارب 5% من مساحة الإمارات، وهذه الزيادة المذهلة هي نتيجة عملية تنموية بدأت عام 1971على يدي رائدها الشيخ زايد». كما أخبرنا أن الشيخ زايد اعتمد في خططه التنموية الزراعية على إحياء طريقة الري التقليدية بواسطة الأفلاج، المعروفة منذ القدم، فأمر بتترميم هذه القنوات وتوسيع مداها ومد شبكتها على أكبر مساحة ممكنة من الأرض، لكن سموه أمر في الوقت نفسه بالإستفادة من سبل الري الحديثة والتقنيات المتطوّرة لتحقيق النهضة الزراعية المنشودة، وتنفيذ المشروعات الكبرى، الأمر الذي قاد جعل مساحات شاسعة من أرض الإمارات تستعيد رونقها وبهجتها من بعد جفاف. وأضاف الرقباني في كتابه أن الشيخ زايد كان يزور المزارعين ويقيم أوضاعهم ويستمع إلى مطالبهم ويحفزهم على العمل ويشجع أبناءَهم على تعلم التقنيات الزراعية الحديثة والاستثمار في الزراعة من خلال المشاريع الفردية الصغيرة. ومما ذكره الرقباني أيضًا أنه «يستحيل على أي شخص أو جهة أن يعطي رقمًا ولو تقديريًا لعدد الأشجار التي نثرها الشيخ زايد في كل مكان في أرجاء الإمارات وخارجها، لكن بعض التقديرات يشير إلى أن العدد قد يراوح ما بين 100 و150 مليون شجرة، حيث كان الشيخ زايد لديه قناعة راسخة بأن الأشجار ليست أقل أهمية على صعيد البنى التحتية المدنية من الطرقات والأبنية».
والحقيقة أن شغف الشيخ زايد رحمه الله المبكر بالزراعة والتشجير رافقه حتى في زياراته الخارجية، وآية ذلك ما رواه السفير عبدالرضا عبدالله الخوري من أنه خلال زيارات سموه إلى سويسرا، زمن عمله هناك سفيرا، كان سموه حريصا على زيارة الأرياف والاستفسار عن أشجارها ومدى ملاءمتها للزراعة في الإمارات، بل كان ينتقي بعضها ويأمر بإرسالها إلى الإمارات لغرسها. ومن هنا، فليس من المبالغة القول أن الشيخ زايد كان يرسم لوزارة الزراعة خططها ومشاريعها.
ما سبق كان مقدّمة للحديث عن الرجل الذي استعان به الشيخ زايد لتحقيق حلمه في تخضير الإمارات وتنميتها زراعيًا، وهو مستشاره الزراعي «عبدالحفيظ ياور خان اليوسفي»، الذي رافق ولازم سموه لسنوات طويلة منذ ما قبل توليه حكم إمارة أبوظبي، ثم بقي وفيًا ومخلصًا لأنجال زايد إلى أن انتقل إلى جوار ربه في الرابع عشر من فبراير 2020 عن عمر ناهز 83 عامًا بمدينة العين بسبب مرض اللوكيميا (سرطان الدم)، فووري الثرى في العين على بعد خطوات من المنزل الذي أمر الشيخ زايد ببنائه خصيصًا له.
في مطلع الستينات، حينما كان الشيخ زايد حاكمًا للمنطقة الشرقية من إمارة أبوظبي، كانت الحياة بسيطة والموارد قليلة والخبرات الزراعية نادرة والوسائل بدائية وسط أراضي قاحلة ومناخ قاس ومياه قليلة، غير أن كل هذه المعطيات لم تمنع الشيخ زايد من أن يحلم بتحويل بلده إلى صنو للبلدان التي زارها لجهة التشجير والخضرة، متجاهلاً مواقف البريطانيين الذين حاولوا إقناعه بأن سعيه للتشجير عمل لا طائل من ورائه. فقد قام سموه بالاتصال بالوكيل السياسي البريطاني في أبوظبي «سير هيو بوستيد»، طالبًا منه البحث عن مهندس زراعي مؤهل لمساعدته في تحقيق حلمه. وبالفعل قام بوستيد بمخاطبة الدكتور جاك إير المستشار الزراعي في السفارة البريطانية في بيروت، الذي وقع اختياره على المهندس الزراعي الباكستاني عبدالحفيظ خان اليوسفي الذي كان للتو قد تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت وكان وقتها يستعد لبدء دراسته العليا من أجل نيل درجة الماجستير في الزراعة. تمّ عرض فكرة انتقاله للعمل في أبوظبي على الرجل، فوافق دون أي خلفية عن مكان عمله وإقامته والمهام المطلوبة منه. وهكذا وصل اليوسفي إلى أبوظبي سنة 1962 من بيروت على متن طائرة من طائرات شركة الخليج للطيران (Gulf Aviation).
ولحسن الحظ أن اليوسفي قبل وفاته بعدة سنوات، وتحديدًا في 11 مايو 2015 دشن كتابًا من تأليفه باللغتين العربية والانجليزية تحت عنوان «خمسون عامًا في واحة العين، ذكريات عبدالحفيظ خان» من إصدار الأرشيف الوطني في أبوظبي. في هذا الكتاب، الذي قدم له سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير شؤون الرئاسة، رئيس مجلس إدارة الأرشيف الوطني بكلمة أشاد فيها بجهود المؤلف واخلاصه للإمارات، نقرأ تفاصيل كثيرة عن مساهمته في المشاريع الزراعية الرائدة في ستينيات القرن الماضي، وما أحدثته من تحولاًت شاملاة في الواحات الداخلية، خصوصا واحة العين التي نالت بسبب ذلك تقديرًا دوليًا بدخولها في قائمة اليونسكو للتراث العالمي باعتبارها مدينة الحدائق في الخليج العربي.
تضمن الكتاب حديثًا مستفيضًا عن واقع الحال في أبوظبي وقت هبوط الطائرة التي أقلت المؤلف من بيروت في السابع من سبتمبر 1962 على أرض رملية بلا مدرج ولا مهبط، وعن لقائه الأول بالشيوخ، وسفره إلى البريمي في سيارة لاندروفر على طرق رملية وسط الصحراء القاحلة، واقامته هناك في مبنى حديث يتيم، وعن لقائه بالشيخ زايد ورغبة سموه بغرس أكبر عدد من الأشجار واهتمامه بالأفلاج، وكيف أنه اقترح على الشيخ زايد التركيز على زراعة النخيل، ما جعل الإمارات لاحقًا تفتخر بوجود 40 مليون نخلة على أراضيها، منها 15 مليون نخلة في إمارة أبوظبي وحدها. كما تحدث خان في كتابه عن الغربة التي شعر بها بادئ الأمر بسب عدم إجادته العربية، وهو ما تبدد سريعًا بالمعاملة الكريمة التي حظي بها من الحاكم والشيوخ والمسؤولين في المجالس ومواقع العمل، ثم تبدد أكثر بتعرفه على الكادر الطبي لمستشفى الواحة، قبل أن تزول غربته بتعلم العربية من خلال المخالطة وحضور المجالس، ما جعله يستغني نهائيًا عن المترجم الفوري الذي خصصه له الشيخ زايد من أبناء جنوب الهند، وكان يدعى محمد زين.
كما تناول اليوسفي في كتابه جهود نشر الزراعة في الفترة من 1962 حتى 1966، فقال ما مفاده إن الشيخ زايد أصر على تعليم الفلاحين كيف يزرعون الخضراوات التي لم يكن لها وجود في غذاء الناس آنذاك، مشيرًا إلى أن شراء بذور الخضراوات وغيرها من النباتات كان يتم من الخارج، وتصل بعد ثلاثة أشهر من إرسال طلب شرائها، وموضحاً انه قام بطلب شراء النباتات التي رغب الشيخ زايد في زراعتها من بيروت فوصلت بحرًا في 12 صندوقًا احتوت على نباتات جاهزة للزراعة، ثم تمّ البدء في توزيعها على المزارعين مع شرح كيفية زراعتها، والعناية بها، ناهيك عن إرشاد السكان إلى كيفية طبخها وتناولها واقناعهم بفوائدها الصحية. وقد استعان اليوسفي في عملية الاقناع بالطبيب بات كيندي الذي كان السكان يثقون بكلامه، وذلك بناء على نصيحة الشيخ زايد.
إلى ما سبق، تحدث اليوسفي عن بعض التحديات التي واجهته في بدايات عمله بسبب طبيعة المكان وضعف الإمكانات، ومنها تحدي المحافظة على الأشجار المزروعة على جانبي الطريق بعد زراعتها واشتداد عودها من الرياح والرمال المتحركة، وهو ما تم التغلب عليه بادئ الأمر بصناعة قفص خشبي حول كل شجرة، ولاحقًا باستخدام براميل الإسفلت الخالية، بعد نزع أغطيتها من الأعلى والأسفل وإحداث ثقوب جانبية بها، بديلاً للأقفاص الخشبية.
ولد اليوسفي في الهند البريطانية قبل تقسيم شبه القارة الهندية، وتحديدًا في عام 1937، وانتقل مع عائلته إلى كراتشي عام 1947 ليصبح مواطنًا باكستانيًا. وهكذا قدر له أن ينشأ في كراتشي بعيدًا عن مسقط رأسه، ويدرس في مدارسها إلى أن أتم تعليمه النظامي. بعدها سافر إلى لبنان من أجل دراسة الزراعة في الجامعة الأمريكية ببيروت. وفي عام 1961 تخرج من جامعته حاصلاً على بكالوريوس العلوم الزراعية، وبدأ على الفور رحلة لم تكتمل لنيل درجة الماجستير من الجامعة ذاتها، وكان السبب، كما أسلفنا، العرض الذي تلقاه للعمل في أبوظبي. وقتها اعتقد الرجل أن عقد عمله في أبوظبي لن يزيد عن سنة واحدة سيعود بعدها لمواصلة دراسته العليا، لكن ما حدث هو أن توثقت علاقته بالشيخ زايد، بل ارتبط أبناؤه أيضًا بعلاقة صداقة مع الشيخين سلطان بن زايد ومحمد بن زايد، فطاب لهم المقام والاستقرار في أبوظبي مع أسرهم، خصوصًا بعد أن أمر لهم الشيخ زايد بالجنسية الإماراتية.
وقد حرص اليوسفي على تنشئة أولاده السبعة في بيئة الإمارات العربية، وإلحاقهم بمدارسها النظامية قبل أن يسافروا على نفقة الدولة للدراسة في المملكة المتحدة. فمثلاً إبنه البكر طارق المولود في العين عام 1963 التحق لبعض الوقت بجامعة العين ثم درس هندسة الطيران في بريطانيا في نفس الفترة التي كان فيها سمو الشيخ محمد بن زايد يدرس في أكاديمية ساند هيرست الملكية العسكرية، وبعد تخرجه حصل على بعثة للتدرب على الطيران الحربي مع دورات في هندسة الطيران في جامعة إمبري ريدل للطيران بفلوريدا. وفي أعقاب ذلك طلب منه سمو الشيخ محمد بن زايد أن يعمل في القوات الجوية الإماراتية ففعل، حيث أمضى 11 عامًا في سلاح الجو الإماراتي حصل خلالها على بعثة أخرى إلى كلية سلاح الجو الملكي في كرانويل بالمملكة المتحدة، حيث تدرب مع طيارين بريطانيين وأمريكيين وخليجيين. ما حدث بعد ذلك هو أن طارق اليوسفي لم يستطع مواصلة العمل مع القوات الجوية الإماراتية بسبب إصابته في حادث أثناء تواجده في الولايات المتحدة تسبب له في عجز دائم في ظهره. ولهذا ودع العمل في سلاح الجو، واتجه للعمل في صيانة الطائرات من خلال شركة «جامكو»، ثم دخل عالم المال والأعمال ليصبح اليوم رجل أعمال ناجح منخرط في مجالات التسويق والطاقة والأدوية والتعليم وغيرها.
التعليقات