قبل أن تتسرب أيام 2022، وعلى مرمى البصر من مواجهة عسكرية عالمية، يحاول بطريرك السياسة الأميركية، هنري كيسنجر، أن يسجل شهادتَه للتاريخ، وقبل وقوع المحظور.
طبعت الحربُ الروسيةُ الأوكرانيةُ العامَ الحالي بملامح ومعالم عودة الصراعات الكبرى، وعلى خط النهايات نجد تصادمَ إراداتٍ قادم لا محالة.
الأميركيون، وهم رأس حربة «الناتو»، ماضون قُدماً في طريق صب المزيد من الزيت على النار، ولعل أقرب باب جهنمي يمكن أن يفتح على الحرب العالمية الثالثة هو تزويد أوكرانيا ببطاريات صواريخ باتريوت، والتي ستكون صيداً ثمينا للترسانة العسكرية الروسية، بمجرد نصبها على الأراضي الأوكرانية، ما يعني أن السلاح الأميركي، هو مَن سيهزم هذه المرة، وهو ما لن تقبله واشنطن بحال من الأحوال.
تدرك موسكو أنها في مواجهة حقيقية قد تصل للقارعة، وتصريحات وزارة الخارجية الروسية قبل أيام قليلة من الآن، حول السياسات الأميركية، وكيف أنها تعجِّل بوقوع المواجهة الشاملة، تكاد تصيب العالَم كلَّه بالجزع.
وفي طريق هذا الإدراك، جاء الإعلانُ الروسي عن إدخال نظام صاروخي مميت آخرَ في الخدمة، فقد نشرت وزارة الدفاع الروسية لقطات فيديو لصواريخ فانغارد التي تَفُوقُ سرعتُها الصوتَ، والقادرةُ على حمل أسلحة نووية.
صواريخ أفانغارد من المستحيل اعتراضها، وقد وصف بوتين النظام الخاص بها بأنه «لا يُقهر»، وشبَّهه بـ«نيزك» و«كرة نارية». وباختصار غير مخل، فإن هذا النظام الصاروخي قادرٌ على الطيران في مسارات فوق القطب الجنوبي للاقتراب من بر الولايات المتحدة جنوباً، كما أن صواريخه مصممةٌ لاختراق نظام الدفاع الصاروخي الأميركي، ولضرب أهداف متعددة برأس حربي واحد.
الصراعُ الروسي في حقيقة الأمر ليس مع الأوكرانيين، بل مع الأميركيين بالأساس، وهذا ما يدركه كيسنجر في مئويته، ويخشى معه أن تتحقق تنبؤات ألبرت إينشتاين حول الحرب العالمية الرابعة، والتي سيكون وقودُها العِصيُّ والحجارةُ، في دلالة على الدمار الشامل الذي ستعرفه الخليقةُ لا قدر الله.
رؤية كيسنجر التي ضمّنها مقالَه في مجلة «ذي سبكتاتور» البريطانية، تناولتْ ضرورةَ التوصل إلى رؤية سلمية قائمة إدراك على التغيرات الاستراتيجية التي تحققت بالفعل، ودمجها في هيكل جديد نحو تحقيق السلام من خلال المفاوضات. وما يعنيه كيسنجر بذلك، هو انسحاب روسيا إلى الخطوط الأمامية التي كانت عليها قبل بدء عمليتها العسكرية في أوكرانيا. يوم الـ24 من فبراير الماضي، وبقاء شبه جزيرة القرم محل مفاوضات بين الجانبين. أما بشأن المناطق التي ضمتها روسيا لأراضيها، فهذه يعاد فيها الاستفتاء، ولكن تحت إشراف دولي.
فهل من استجابة محتملة لدعوة كيسنجر هذه؟
غالب الظن أن نصيبَها هو الإخفاق؛ فالأوكرانيون يعتبرون مقترحاته من قبيل «مهادنة المعتدي»، ويتهمونه بأنه لا يفهم شيئاً عن طبيعة الحرب ولا تأثيرَها على النظام العالمي. أما الروس فمن المستحيل أن يتراجعوا عن القرم، وإجبارهم على خسارتها يعني المواجهة النووية.
يكاد كيسنجر يصيح: لا تُظهِروا روسيا عاجزةً، ولا تَسعوا في طريق تفكيكها، فإنَّ هذا سيطلق العنانَ للفوضى، أو بمعنى آخر، للحرب الكونية النووية. فهل هو سيناريو انهيار جبل الثلج وليس كرة الثلج فحسب؟