أتابع حاليًا نقاشات مجلس النواب لبرنامج عمل الحكومة للسنوات الأربع المقبلة 2023-2026، وكيف يسألون الحكومة عن كل شاردة وواردة في هذا البرنامج، ويرفعون لها قائمة طويلة من المطالب، ويتحدثون للإعلام بكل حرية، ثم يأتي فريق العمل الحكومي لمجلس النواب ليشرح ويدافع عن وجهات نظره في البرنامج، قبل أن يخضعه للتصويت، والقبول أو الرفض، لتعيد الحكومة صياغته من جديد.

وعندما تعمقت بالأمر أكثر وجدت أن إحالة برنامج عمل الحكومة للنواب هو مبدأ دستوري ديمقراطي راسخ لا يمكن تجاوزه، وأن على الحكومة أن تحصل على موافقة نواب الشعب قبل الشروع في تنفيذ برنامجها، لكن النقاش حول هذا البرنامج يتم في أجواء هادئة وطروحات متزنة، تضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار.

هذا مشهد من مشاهد الديمقراطية المنتجة التي وضع أسسها الراسخة جلالة الملك المعظم في مشروعه الإصلاحي، والتي يحرص جلالته شخصيًا على حمايتها وتطويرها بما يتماشى مع احتياجات التنمية والتطور في مملكة البحرين، وفي إطار الملكية الدستورية التي جلبت الاستقرار والرخاء والازدهار للجميع. إنها الديمقراطية التي تناسبنا، التي تعتبر امتدادا طبيعيا لتاريخنا وحضارتنا، وتراعي قيمنا ومبادئنا وثقافتنا والتطور التاريخي لمجتمعاتنا.

هذه الديمقراطية تختلف اختلافًا جذريًا عن الديمقراطية السائبة التي يعاني الغرب من عواقبها في صور مأساوية عديدة يمكن مشاهدتها في انفلات تملك السلاح في الولايات المتحدة مثلاً وما ينجم عنه من حوادث قتل عشوائية في المدارس والشوارع، وتفشي ظاهرة المثلية التي لا يمكن لإنسان سوي عقليًا وجسديًا القبول بها، وتشريع تعاطي أنواع من المخدرات، وحالات العصيان الكثيرة والإضرابات التي تشل الاقتصاد وتجعله أضعف، وعدم استقرار النظام السياسي والاقتصادي، وغير ذلك الكثير.

الأنكى من ذلك أن الغرب مؤمن أن نموذجه الديمقراطي هذا هو أحدث ابتكارات تراكمات الفكر السياسي عبر العصور، وأنه يصلح لكل مكان وكل أمة وشعب وتجمع بشري، ولذلك يجب عليه العمل على نشر هذا النموذج في العالم، وقد ظهر هذا التوجه في أبرز تجلياته عند الغزو الأمريكي للعراق، عندما خرج جورج بوش الابن علينا ليقول إن العراقيين سيستقبلون دبابات أبرامز الأمريكية بالورود، لكن جميعنا يعرف ما حدث بعد ذلك.

بالله عليكم، ألا يكاد الغرب في إصراره على نشر نموذجه الديمقراطي في دولنا يشابه ملالي إيران في إصرارهم على تصدير ثورتهم إلينا؟ لماذا لا يتركوننا وشأننا وحسب؟! أليس فرض ديمقراطية مستوردة من خارج الحدود هو أبشع أشكال الدكتاتورية؟ ليس هناك من عاقل يكره الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ولكن الواعي وحده يعرف أن الغرب يستخدم هذه المفردات الجميلة لتحقيق مكاسب سياسية، وزعزعة المجتمعات المستقرة، والضغط على أنظمتها، وخلخلتها، والعبث بمساراتها التاريخية والاجتماعية، ثم السيطرة على مقدراتها بعد إنهاكها بالحروب والنزاعات والفتن، ولنا في ليبيا وتونس وجنوب السودان وغيرها خير أمثلة على ذلك.

على الساسة في الغرب الاعتراف بأن نموذجهم الديمقراطي لم يعد يعمل، وأن صلاحيته انتهت، وأصابه العطب، وأصبح «المأذون الشرعي» لزواج السلطة والمال، وتشارك المصالح بين السياسيين ورجال الأعمال، واستئثار فئة قليلة بالمكاسب، وتمرير المشاكل والصعوبات والتحديات إلى طبقات الشعب الواسعة بدعوى الشفافية والنزاهة.

لنكون صريحين أكثر، الديمقراطية السائبة تضع مقاليد الحكم في أيدي عامة الشعب، مع وجود فوارق كبيرة بين الأفراد بعضهم بعضًا من حيث الاستعداد الذهني ودرجة التعليم والثقافة، ودرجة الاهتمام بالمسائل العامة، والمعرفة التخصصية بالنسبة إلى المشكلات السياسية، وإذا تركنا الحبل على الغارب لن نضمن أن يصل إلى سدّة الحكم الأكفاء التكنوقراط من الباحثين وأستاذة الجامعات بدلاً عن رجال الدين مثلاً أو نجوم الفن والسينما والرياضة المتميزين في مجالاتهم لكن غير الصالحين للعمل السياسي والعسكري والاقتصادي.

كما تؤدي الديمقراطية على الطريقة الغربية إلى تقلب مراكز القوة في الدولة، ومن آثار هذا كله تعطل الأعمال الحكومية، عدم الاستمرار في التزام سياسة واحدة مدة كافية لتحقيق نتائجها، مضافًا إلى أن عدم استقرار الوزراء وكبار الموظفين في مناصبهم قد يغري بعضهم باستغلال نفوذه للكسب السريع على حساب المجتمع، وتعتبر أداة انقسام في البلاد ومجلبة للضغائن والأحقاد. وهي بالتالي تؤدي إلى إضاعة الجهد أحيانًا في «مناقشة بيزنطية» ونقد عقيم، فضلا عما يشوبها عادة من حزبية مغرضة وأنانية بغيضة حتى أصبح بعض الساسة في البلاد الديمقراطية نفسها يفخرون بأنهم مستقلون.

حتى إن الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جان جاك روسو لم يكن يؤمن بالتمثيل الديمقراطي، وأن هناك شخص يمكن أن يمثل أشخاصًا آخرين لمجرد أنه حاز على عدد أصوات أكبر بالانتخابات؛ لأنه وببساطة يمكن لهذا الشخص المفوض أن يعمل ضد مصالح الناخبين، سرًّا أو علانية، وفي هذا الحالة لن يجدوا حلاً سوى الانتظار لسنوات قبل أن يتمكنوا من انتخاب غيره، إن تمكنوا من ذلك حقًا.

وفي الواقع، تعجبني الرقابة الشعبية على أداء النواب في البحرين، ويظهر ذلك واضحا في الصحف الرسمية، وبشكل أكثر وضوحا في السوشال ميديا، فالنائب يدرك تمامًا أنه ليس لديه تفويض دائم ومفتوح من الناخبين ليقوم بما يحلو له من أعمال، بل هناك رصد لكل موقف من مواقفه وتصرف من تصرفاته، لكن حتى هذه الرقابة الشعبية لا تحقق النتائج المرجوة، وغير مجدية في كثير من الأحيان.

يظهر زيف وبطلان الديمقراطية الغربية بشكل يندى له الجبين في تعاطي تلك الدول مع القضية الفلسطينية: مجموعة من اليهود شكّلوا عصابات مرتزقة وحصلوا على حماية سياسية من بريطانيا وعاثوا قتلاً وتدميرًا في صفوف الشعب الفلسطيني الأعزل، احتلوا مُدنه وقراه، ثم سارع العالم «الديمقراطي المتحضر» إلى الاعتراف بهم كدولة، ولا زال حتى اليوم يكيل بمكيالين، وأفضل ما يقدّمه للفلسطينيين كلامًا معسولاً حول «التعايش وقبول الآخر وحلّ الدولتين».

بعض الغرب بصره عن سياسة الفصل العنصري التي تطبقها إسرائيل بحق الفلسطينيين، ونسي جدارها العازل الذي فصل الفلاحيين الفلسطينيين عن أرضهم في القرية الواحدة، رغم أن الغرب ذاته حارب هذه السياسة في جنوب أفريقيا مثلاً، ومنح سكانها حق تقرير مصيرهم. والله هذا أمر مضحك مبكي، لا يقبله عقل.

لست مفكرًا سياسيًا محترفًا، لكني محب للثقافة ومهتم بالشأن العام، ويمكنني تأكيد أن نظام الحكم الذي ينضج عبر تطورات اجتماعية طويلة ويترسخ بهدوء في نفوس الناس ويتطور أيضًا بعيدًا عن الاهتزازات العنيفة، هو أفضل بكثير من نموذج حكم مستورد ظاهره سعادة وباطنه شقاء وألم، والأصعب من ذلك أن الدول التي استوردت أو فرض عليها هذا النظام أصبحت كالغراب الذي حاول طويلاً أن يقلد مشية الحمامة ففشل، فحاول أن يعود إلى مشيته الأصلية فلم يقدر لأنه نسيها، فصار يتعثر كلما حاول المشي.