لا تعكس إطلالة الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله الأخيرة في مواقفه توجهاً للتوافق على انتخاب رئيس جمهورية تسووي، بل تشير إلى أن هذا الاستحقاق مؤجل إلى حين توافر معطيات خارجية تدفع الأمور قدماً عبر الضغط لبلورة حل لمشكلة الاستحقاقات اللبنانية.

ويبدو أن هذه التهدئة التي يمارسها "حزب الله" لاستيعاب التطورات الداخلية والإقليمية قد تتبدد في المرحلة المقبلة، فالمعلومات تشير إلى أن الحزب قد يتجه إلى إعلان مواقف تحمل الكثير من التصعيد. وهو ينطلق من مقاربة ترى أن الولايات المتحدة ودولاً عدة تستمر بحصار البلد، ولم يعد من خيار إلا المواجهة واستخدام فائض القوة والتأثير لفرض وقائع جديدة تؤدي إلى انتخاب رئيس "لا يطعن المقاومة" في الوقت الذي لا يزال يتبنى اسم سليمان فرنجية لهذا الموقع. وهذا التصعيد لا يقتصر فقط على لبنان، إنما قد تكون له امتدادات إقليمية لإثبات قدرة قوى الممانعة على رفع ما تسميه بالحصار والطوق المفروض.

في المواقف لم يخرج نصرالله عما يسميه مواصفات الرئيس اللبناني المقبل، أي الرئيس الذي "لا يطعن المقاومة بالظهر"، وهذا الأمر يشكل نقطة خلافية في ما يتعلق بهذا المعيار تحديداً، فالرئاسة هي استحقاق ينبغي أن تشكل جزءاً من برنامج إنقاذ البلد والدفاع عنه وحمايته، ولا يمكن لأي رئيس يتصرف كطرف في الحكم أن يكون حكماً بين اللبنانيين. ومن مقاربة نصرالله لموقع الرئاسة لا يبدو أن "حزب الله" منفتح على مناقشة الخيارات المطروحة والتوافق الداخلي على الملفات الخلافية، حتى وهو ينفتح على البطريركية المارونية ويساجل التيار العوني، إذ يقدم منطلقاته السياسية وحساباته المحلية والإقليمية عليها.

تُظهر مطالعة نصرالله ومواقفه حجم الأزمة في لبنان، والتي باتت تتخطى القوى الداخلية وقدرتها على إنتاج تسوية للملفات العالقة. فالمؤكد أن اصطفافات سياسية جديدة بدأت تظهر في ضوء الانسداد القائم، حيث تشير المعلومات إلى أن المواجهات قد تأخذ منحى تصاعدياً في محاولة لتكريس توازنات جديدة. وانطلاقاً من ذلك بات واضحاً أن إنجاز الاستحقاق الرئاسي مؤجل، في ظل الإصرار على مواصفات سياسية محددة للرئيس، فيما الإرادة اللبنانية حول التوافق غير متوافرة، والاهتمام الدولي بلبنان لا يرقى إلى مستوى الأولويات. وبالنظر إلى أن "حزب الله" لا يزال يتمسك باسم سليمان فرنجية، وهو ما أشار نصرالله إلى مواصفاته، فإن التوافق داخلياً بين القوى السياسية والطائفية على انتخابه مسألة فيها الكثير من الصعوبة.

يدرك نصرالله أن انتخاب شخصية "لا تطعن المقاومة بالظهر" والتي يمكن أن تكون مرشحه، تحتاج إلى تأييد مسيحي، وهو أمر غير متوافر لدى الكتلتين اللتين تمثلان "القوات اللبنانية" و"التيار الوطني الحر"، والأخير يرفض اطلاقاً انتخاب فرنجية أو قائد الجيش جوزف عون للرئاسة.

النقطة الثانية أن "حزب الله" لا يستطيع أن يفرض ما يريد إلا من خلال فائض القوة ولدى توافر صفقة خارجية هي غير متاحة اليوم، وبالتوازي يبدو أن تسوية انتخاب الرئيس تحتاج إلى اتفاقات خارجية تترجمها توافقات داخلية بين القوى الرئيسية في البلاد، وهو أمر لا يزال مستبعداً حتى اليوم. لذا يبقى البديل استمرار الفراغ وتعطيل البلد إلى حين توافر ظروف مواتية لفرض مرشح محسوب على "المقاومة"، كما حدث في عام 2016 بانتخاب ميشال عون رئيساً وهو المرشح الأوحد لـ"حزب الله" وفرضته موازين قوى إقليمية جديدة بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015، علماً أن المؤسسات اللبنانية تعطلت لمدة سنتين بين 2014 و2016. وللعلم أن عون كان يعتبره نصرالله "الرئيس المقاوم" حيث وصلت البلاد في عهده إلى انهيار لا سابق له.

يعترف نصرالله بعدم توافر مساعٍ جدية خارجياً لانتخاب رئيس جديد، لكنه لا يحدد طبيعتها وما إذا كان يقصد تفاهماً سعودياً – إيرانياً أو تقدماً في المفاوضات النووية ينعكس على أوضاع لبنان، وفي المقابل لا يتقدم بمبادرة داخلية تقوم على التوافق لإنجاز الاستحقاقات. والواضح أن المشكلة اللبنانية باتت أبعد من مجرد انتخاب رئيس. الواقع أن الجميع لديهم رهانات على تغيير ما في المشهدين الإقليمي والدولي يسمح بتعديل وجهة البلد ونظامه، لكن الحل الدولي لم يحن أوانه بعد نظراً لمصالح الدول المهتمة بلبنان، المعقدة، وحساباتها في أكثر من مكان.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة والسعودية لم تعلنا دعمهما لأي مرشح رئاسي، إلا أن "حزب الله" يعتبر أن هناك محاولات لتأمين نصاب وتكتلات تؤدي إلى انتخاب قائد الجيش جوزف عون رئيساً، وهو لا يزال يميز فرنسا التي لا تقفل الباب أمام أي تسوية قد تؤدي إلى انتخاب عون أو سليمان فرنجية رئيساً أو أي اسم، فالمهم بالنسبة اليها هو عبور الاستحقاق وتسجيل إنجاز على هذا الصعيد. أما العائق الأكبر أمام الحزب داخلياً، فيبقى تأمين تغطية مسيحية لانتخاب مرشحه، وهو إذ يدرك أن الانقسام المسيحي يشكل عائقاً، إلا أنه يركز على ترتيب تسوية مع "التيار الوطني الحر" وتطويع جبران باسيل تحديداً.

الصراع الحالي الذي يمكن أن يشهد تصعيداً في المرحلة المقبلة ويضع البلد أمام احتمالات انهيار كبرى، يواكب الفراغ ويمده بعناصر الاستمرار. إذ لم يعد ممكناً الحديث اليوم عن صفقة إيرانية - أميركية حول المنطقة ومنها لبنان، وهذا ينعكس على إمكان إيجاد حل أو بلورة تسوية مع "حزب الله". ولذا لا يزال الحزب يتمسك بترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، ولا يفتح الباب أمام خيارات أخرى. والأخطر أنه يستثمر في الفراغ، طالما أن لا تفاهم حول آلية الإنقاذ. وفي الوقت نفسه تصطف القوى الطائفية في بيئاتها وتبتعد أكثر عن الالتقاء خصوصاً التيار العوني الذي يلعب على الورقة المسيحية في موضوع الحكومة والرئاسة.

لبنان في مطالعة نصرالله وفي مواقف القوى الطائفية الأخرى مرشح للاستمرار في حالة الفراغ وهو سيبقى في حالة انتظار وفوضى، ولذا تسعى مختلف القوى إلى تحسين مواقعها من خلال الاصطفافات، ويتواصل الانهيار في غياب أي خطط إنقاذية جادة، داخلياً، واستقالة خارجية عن الاهتمام بلبنان وهويته وصيغته التي تتفكك أمام أعين الجميع.