تثار عدة مصطلحات تحليلية عندما يحدث تغيير سياسي ما بين دولتين، فيذهب البعض لتسمية ذلك بالتطبيع ويذهب البعض الآخر لإطلاق مصطلحات التوافق والتقارب. وفي معظم الأحوال، فإن تحليل التغييرات السياسية بين دولتين يظل دائماً في حالة التوقعات والتنبؤات التي تضطر لقراءة موقف ما، أو مواقف سياسية عدة متداخلة، ومن وجهات نظر مختلفة، سواء تلك التي تُقدم للصحف ووكالات الأنباء ومحطات التلفزة أو التي تستعين بها الأجهزة الاستخبارية للمزيد من الفهم والتوضيح حول المسارات المتوقعة في العلاقات الدولية.
خلال الأسبوع الماضي اضطررت لقراءة عشرات التحليلات التي تحاول قراءة وفهم الموقف الإماراتي في سوريا، ولكني للأسف لم أجد رؤية واحدة شاملة يمكنها إدراك وتصوير حقيقة ما يجري على أرض الواقع. فكل تحليل أو دراسة تأخذ جانباً معيناً محدوداً، وليس منها ما يضع الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الإماراتية الشاملة تجاه دول الإقليم ودول العالم أجمع، بعين الاعتبار، بل يقتطعون مواقف صغيرة هنا وهناك ويحللون بناء على وجهة نظرهم القاصرة، وأقصى ما يمكنهم رؤيته هو المصالح التي تحرك الأطراف عادة، وهذه مسألة تجاوزتها دولة الإمارات منذ زمن، حيث توسعت وتطورت في استراتيجيتها الشاملة. وكانت جائحة كورونا هي الشاهد الذي قدم دليلاً على ذلك التحول الاستراتيجي والمرونة الفائقة في سياسات دولة الإمارات الخارجية.
دولة الإمارات العربية وبكل وضوح وشفافية تنظر إلى سوريا على أنها بلد عربي عريق له تاريخ وحضارة تستحق المحافظة عليها وحمايتها، وتنظر إلى الشعب السوري كله، دون الجماعات الإرهابية، أنه شعب عربي شقيق تعرض لأزمات متلاحقة، ما جعل الأرض السورية مسرحاً لأحداث سياسية وعسكرية أدت إلى نتائج كارثية على المستويات الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، إضافة إلى ما تعرض له قسم كبير من الشعب السوري إلى الهرب واللجوء، كذلك تنظر دولة الإمارات إلى دولة سوريا باعتبارها جزءاً أساسياً ورئيسياً من منظومة دول الشرق الأوسط، وأن استعادة الأمن والاستقرار في دول الشرق الأوسط كافة يستوجب الاهتمام الشديد بإيجاد حلول عاجلة للأزمة في سوريا وتخليصها من أي ثمن أن تكون ساحة للحروب الأخرى مثل الحرب بين إسرائيل وإيران أو بين روسيا وأميركا أو تركيا والأكراد، إذا جاز التعبير.
الاستراتيجية الإماراتية السياسية الشاملة دفعت لإنهاء حالت القطيعة التي بدأت بين سوريا والدول العربية في العام 2012، فبادرت دولة الإمارات في ديسمبر 2018 لإعادة فتح سفارتها في دمشق، وخلال أزمة جائحة كورونا، وفيما تعرضت سوريا لأزمة صحية خطيرة، وحين تخلى العالم كله عن سوريا، أكدت دولة الإمارات أنها ستقدم كل ما لديها لدعم ومساعدة الشعب السوري في تلك الظروف الاستثنائية، وأن التضامن الإنساني في أوقات المحن يسمو فوق كل اعتبار، وأن سوريا العربية الشقيقة لن تبقى وحدها في تلك الظروف الحرجة، وكذلك أكدت دولة الإمارات على دعم استقرار سوريا وسيادتها على كل أراضيها، وعن ثقة الإمارات بأن الشعب السوري يستطيع بفضل إرادته أن يعيد من جديد لبلاده نهضتها وتطورها ورخاءها.
وحيث ترى الاستراتيجية الإماراتية الدولية ضرورة عودة سوريا إلى محطيها وإلى دورها في جامعة الدول العربية، استقبلت دولة الإمارات الرئيس السوري بشار الأسد، لإعادة لحمة العلاقات الأخوية والتعاون والتنسيق المشترك بين البلدين الشقيقين، بما يسهم في ترسيخ الأمن والاستقرار والسلم في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط، والتأكيد على مواصلة التشاور والتنسيق الأخوي بين البلدين حول مختلف القضايا.
لم ولن تتوقف جهود دولة الإمارات لإعادة العلاقات الدبلوماسية العربية أو الدولية مع النظام السوري، ومع صعوبة ذلك، حيث ما زال الطريق طويلاً وشائكاً بالنسبة لدول إقليمية ودولية تتمترس خلف مصالح أو نزاعات مع النظام السوري، أو تلك التي ترتكز على خلافات سياسية أو عسكرية أو ترى أن النظام السوري ما زال مرتبطاً بشكل أو بآخر مع قوى دولية أو إقليمية تتعارض مع علاقاته الدولية، ولكن دولة الإمارات لا يثنيها هذا الهاجس المتغير، بل تتجه دائماً نحو التفكير الإيجابي والأفق الأوسع لتحقيق استراتيجيتها السياسية وتعمل جاهدة بكل ما لديها لتمهيد الطريق الأمثل نحو مستقبل مزدهر بالسلام والأمن والاستقرار، سواء في الشرق الأوسط أو حول العالم.
تتداخل التحليلات حول الدور الإماراتي الكبير في تقريب وجهات النظر بين تركيا وسوريا، وكذلك حول الموقف الأميركي الذي ما زال قاصراً في معالجة الأزمات، التي يتعرض لها الشعب السوري الشقيق، والتأخير والمماطلة والتسويف في المواقف الدولية بحجج واهية واهنة تزيد من أزمة هذا الشعب الذي يرزح، بل ويختنق بفعل أزمته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ولكن دولة الإمارات لن تدخر جهداً أو استثماراً في علاقة وطيدة مع دولة مثل أميركا لتصويب ذلك، وإيجاد الحلول الناجعة لتسريع عودة سوريا إلى الحضن العربي والإقليمي والدولي.