تتوقّف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والحكومات الأوروبية الشريكة لها أمام معضلة انحسار المنطق التقليدي في قراءة العلاقات الإيرانية- الإسرائيلية. فمعادلة أ-أ خرجت من الافتراض أن إيران وإسرائيل سيستمران في التهادنية بينهما بغض النظر عن التصعيد اللفظي والحروب بالنيابة. لم تعد العزلة أداة فاعلة لتغيير السلوك، ولا العقوبات والإدانات. فنحن على عتبة جديدة من المفهوم المصيري لكل من إيران وإسرائيل عند قادة البلدين- مفهومٌ ستترتّب عليه مفاجآت لن تكون في سياق المنطق الذي كان مُعتَمداً لقراءة المستقبل.
القيادات العسكرية الإيرانية بدأت مشاوراتها مع حلفائها حول سيناريو حربٍ مباشرة مع إسرائيل بمبادرة إيرانية أكثر شمولاً من مجرد الرد على استفزازات إسرائيل بعمليات داخل إيران. حلفاء مثل كوريا الشمالية جاهزون لدعم الحليف في طهران، إنما الحليف الروسي ليس متحمّساً للسيناريوهات المتهوّرة والتي بموجبها تشن إيران حرباً مباشرة على إسرائيل بهدف تدميرها قبل أن تتمكن إسرائيل من الرد.
روسيا لا تريد خسارة الحليف الإيراني في الحرب الأوكرانية وهي تعتمد على إيران التي أوكلت اليها مهام الحفاظ على نظام بشار الأسد في سوريا. إنما ما لا تريده موسكو هو التورّط المباشر في دعم سيناريو الحرب الاستباقية التي تتحدّث عنها الأوساط العسكرية الإيرانية لتدمير إسرائيل. روسيا قد تساعد قليلاً لكنها لن تتحالف كثيراً في مثل هذا السيناريو.
بحسب المقربين من التفكير العسكري في طهران، ان الجمهورية الإسلامية الإيرانية وصلت الى مرتبة عالية جداً من الثقة بالنفس وهي واثقة بأنها لن تحتاج المعونات العسكرية من روسيا أو من غيرها وإنما هي قادرة بمفردها على تدمير البنية التحتية الإسرائيلية برمتها.
أحد الأسئلة المهمة هنا هو ما إذا كانت القيادات الإيرانية تبلف للتغطية على ضعفها البنيوي وعلى خوفها من الانهيار- لذلك تسرّب تهديداتها وتكابر في مزاعمها. الحكمة تقتضي عدم الاستهتار بالرسالة الإيرانية بل تقتضي التدقيق في المنطق الذي يتّبعه حكام طهران كما في الإمكانيات العسكرية الإيرانية والإسرائيلية على السواء.
وينقل مصدر مقرّب من التفكير في طهران أن رجال النظام قد قرّروا أن مستقبل إيران وبقاء النظام يتطلبان تدمير إسرائيل- فالمسألة وجودية بامتياز. يقول المصدر إن رجال طهران يعتقدون أن الوقت الآن هو الوقت المناسب لرسم مستقبلٍ لإيران ينطلق بالضرورة من تدمير إسرائيل. يعتقدون أن الانشغال بالحرب الأوكرانية سيكبّل الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وأن سرعة العمليات العسكرية الإيرانية ستُذهِل وستفتح صفحة جديدة للجمهورية الإسلامية الإيرانية تنقلب على أوضاعها الراهنة المتعثرة.
المنطق الذي يعتمده رجال النظام ينطلق من العناصر التالية: أولاً، ضرورة تغيير قواعد اللعبة بعدما بات واضحاً أن لا مجال على الإطلاق لعودة سريعة الى المفاوضات النووية، وبالتالي الى هدف رفع العقوبات عن إيران. فلقد انتهى خيار مفاوضات فيينا، ولم يعد لدى رجال الحكم أي سبب لضبط النفس ولسلوك إقليمي متزِّن ومنكمش. بل إن القيادة الإيرانية اجتمعت هذا الأسبوع وقررت أن إيران لن تنتظر ولن تكبح نفسها وهي تحتفظ الآن بحق تغيير سلوكها ونسف قواعد اللعبة التي اعتُمِدَت أثناء مفاوضات فيينا.
ثانياً، ترى القيادة الإيرانية ان اختلاق أزمة كبرى هي الوسيلة الوحيدة للضغط على الولايات المتحدة وأوروبا، كما على إسرائيل. رأيها ان استعادتها موقع تركيز الأنظار على القدرات الإيرانية العسكرية سيفرض على واشنطن والعواصم الأوروبية التفكير بحلول وسط بدلاً من الانقضاض على النظام في طهران.
فالنظام يحمّل الولايات المتحدة وأوروبا وكذلك إسرائيل مسؤولية نسف مشروعه لنهضة اقتصادية كان قوامها رفع العقوبات عبر إحياء الاتفاقية النووية. كان لدى النظام مشروع إعادة إحياء الاقتصاد الإيراني في برنامج من عشر سنوات، وهو اليوم يحمّل هذه الدول مسؤولية تدمير المشروع برمته والتسبب بركود مدمِّر للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ثالثاً، تدّعي القيادات العسكرية الإيرانية أن في وسعها شن عمليات عسكرية ضد إسرائيل من شأنها أن تخلق وضعاً يجعل الولايات المتحدة وأوروبا تتوسّل الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالتوقف عن عملياتها. رأي هذه القيادات أن أوروبا بالتأكيد لن تهرول الى مساعدة إسرائيل وأن الولايات المتحدة أيضاً لن تغامر بالتورط عسكرياً الى جانب إسرائيل لأن المغامرة ستكون كبيرة ومكلِفة.
حجم المغامرة، في رأي حكام طهران، لا يقتصر على المخاوف من التورط العسكري المباشر مع طهران وإنما سيشمل الاعتبارات النووية كما سيصبّ في خانة مربكة للحرب الأوكرانية. فالقرار الأميركي- الأوروبي ما زال يضع في حساباته سبل فصل إيران عن روسيا بالذات في الحرب الأوكرانية- وهو أمر قد تستفيد منه طهران في إطار المناورة لأنها فعليّاً لا تبدو أبداً جاهزة للانحراف بعيداً عن تحالفها الاستراتيجي مع روسيا.
الانفصال الأوروبي- الإيراني بات نهائياً تقريباً. ولم تعد أوروبا ترضخ لإيران وشروطها أو تدافع عنها بعدما تحالفت إيران مع روسيا عسكرياً في حرب تعتبرها أوروبا ضدها مباشرة. هذا الانفصال له تداعياته التي تقلق أوروبا بالذات عبر نشاطات كانت إيران تعهدت بإيقافها في الدار الأوروبية. اليوم، لا تفاهمات ولا قيود على المغامرات الإيرانية في الساحة الأوروبية.
الأهم ان قادة إيران على يقين بأنه ليس هناك فهم ووعي أميركي أو أوروبي أو إسرائيلي لعمق البرنامج النووي الإيراني، وأن الخيارات الأميركية والأوروبية والإسرائيلية تبقى محدودة.
يرى القادة الإيرانيون أنه ليس في وسع الولايات المتحدة التورط في عمليات عسكرية مشتركة مع إسرائيل ضد مفاعلات نووية في إيران: بل أكثر. يعتقد هؤلاء القادة أن الولايات المتحدة لن تتورّط عسكرياً حتى ولو شنّت إيران عمليات عسكرية استباقية تدمّر إسرائيل. لماذا كل هذه الثقة بالنفس؟ هل هذا بلف للتغطية على الخوف والضعف؟ أو أنها حسابات معقولة نظراً للأوضاع العالمية الراهنة التي غيّرتها الحرب الأوكرانية؟
ما أقرته طهران هو أن الوضع الراهن داخلياً وخارجياً لا يُطاق وأن على النظام أن يعرض عضلاته ليثبت وجوده بل لينقذ مصيره. أقرّت أن استمرار الوضع الراهن أخطر على النظام من المغامرة العسكرية الكبرى. استنتجت القيادة الإيرانية أن في وسعها أن تنتصر في نزاع ثنائي مع إسرائيل سيّما– حسب تقويمها- أن الولايات المتحدة لن تتدخل وأن الجميع لا يريد حرباً اقليمية تتعدّى معادلة أ-أ الثنائية.
الخبراء العسكريون يتحدثون عن حرب تكنولوجية وليس عن حرب تقليدية. هنا يختلف تقويم الذين يستمعون الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن تقويم الذين يتعمّقون في العلاقة الأميركية- الإسرائيلية العسكرية والتفوّق التكنولوجي العسكري الأميركي.
يزعم الذين يستمعون ويسوّقون للمنطق الإيراني أن لدى إيران من الصواريخ والمسيّرات الحربية المتطورة ما يكفي لشن سلسلة ضربات على الأراضي الإسرائيلية تربك إسرائيل وحلفاءها. أحد مصادر القوة الإيرانية، يقول هؤلاء، هو أن إيران جاهزة لتلقي ضربات عسكرية انتقامية في الأراضي الإيرانية، وأن تتكبد إيران الخسائر البشرية والمادية.
يقولون إن هدف طهران الأساسي سيكون تحييد نظام الدفاعات الإسرائيلي عبر شلّه، وبالتالي لدحض القدرة الانتقامية الإسرائيلية. ثم أن المنشآت النووية الإيرانية ليست كلها معروفة لإسرائيل أو غيرها. وبالتالي، وبحسب هذا المنطق ستحصل إيران على ما تريده: تدمير إسرائيل، فرض شروطها على أميركا وأوروبا مقابل التهديد بعواقب جديّة تدخل في الخانة النووية.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يواجه أزمات داخلية واحتمال اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة وهو ليس مدعوماً في استفزازاته، لا أميركياً ولا أوروبياً. إنه يحاول أن يحصل على ضمانات أميركية بشراكة أو بتغطية جويّة لعمليات عسكرية يعتقد أن في وسعها تدمير البرنامج النووي الإسرائيلي. حتى الآن، ليس هناك من مؤشر على نجاح جهوده.
كل هذا يؤدّي الى استنتاج إيران وحلفائها أن إسرائيل قادرة على الدفاع عن نفسها، لكنها غير قادرة على شن عمليات عسكرية كبرى على إيران. وبحسب هذا المعسكر، ان إيران باتت أكثر تطوراً تكنولوجياً عسكرياً من إسرائيل. إنما هذا يبقى استنتاج معسكر منحاز وليس بالضرورة استنتاجاً دقيقاً.
ماذا ستحتاج إيران من حلفائها الإقليميين؟ ستحتاج إيران الأراضي السورية أكثر من غيرها لأنها ساحة مهمة بسبب متاخمتها لإسرائيل. ستحتاج "حماس" إذا برزت الحاجة الى صواريخ قريبة المدى. صواريخ "حزب الله" في لبنان بالطبع ستكون مفيدة، إنما ليس بالضرورة لاستخدامها في الضربات الأولى التي يعتقد، أو يسوّق، قادة إيران أنها ستكون قاضية في حرب تكنولوجية سريعة.
ماذا عن الإجراءات العسكرية والمالية التي تقوم بها إدارة بايدن لكسر طوق "الهلال الشيعي" إن كان في عمليات عسكرية في منطقة البوكمال أو في خطوات مالية لوقف تدفق أموال العراق الى إيران؟ ماذا عن العمليات الإسرائيلية غير المعلنة في داخل إيران والتي تعرّي المزاعم الإيرانية بأن النظام ثابت وغير مخترقٍ أمنياً؟
يكابر المعسكر الداعم للنظام بقوله "هذه ليست سوى عضّة بعوضة لفيل" only a Mosquito bite to an elephant.
ومتى ينوي قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن يدهشوا العالم والمنطقة بحرب استباقية تكنولوجية تستغرق مجرد يومٍ أو يومين تدمّر قدرة إسرائيل على الرد؟ يأتي الجواب على النحو التالي: لم يحن الوقت اليوم أو الآن لكنه آتٍ في غضون أشهر قليلة لا تتعدّى الثلاثة أشهر لأن ذلك ما ستفرضه اعتبارات الروزنامة النووية.
- آخر تحديث :
التعليقات