المقاييس التي نميز بها بين المستحيل والممكن مقاييس نسبية، فبرغم أن تركيبة العقل البشري متماثلة ومتساوية بين الناس إلا أنه كثيرًا ما يختلف اثنان على حقيقة من الحقائق، فمن يؤمن بها كأنه يراها رأي العين، وآخر ينكر وجودها إنكارًا تامًا، وإذا ما بحثنا عن مصدر الخلاف بينهما وجدناه كامنًا في الزاوية التي ينظر بها كل منهما إلى الحقيقة.

كانت هذه الكلمات مدخلًا للدراسة التي كتبها الدكتور علي الوردي حول خوارق الشعور أو أسرار الشخصية الناجحة والتي كانت الباعث لتلك الدراسة كتاب (The personality of man) والذي قرأه أثناء عودته من رحلته العلمية من الولايات المتحدة الأمريكية.

تدور الدراسة حول أسرار القوى النفسية، والتي كما يقول الدكتور الوردي لا صلة لها بالتوجهات الدينية أو الروحية، وإنما درسها على ما كانت عليه في الواقع دون أن يدخل عليها أي تفسير أو تأويل.. حيث يرى الدكتور الوردي أن القوى النفسية الخارقة موجودة في كل إنسان، ولكن الفرق يكمن في الدرجة وليس في النوع.

وموضوع القوى النفسية بدأ كعلم تجريبي عام 1930 وذلك عندما أسست جامعة ديوك فرعاً خاصاً لدراسة القوى النفسية دراسة مختبرية، وقد أثارت تلك الدراسات والتجارب ضجة في الأوساط العلمية إلا أنه اليوم أصبحت القوى النفسية موضوعاً تجريبياً تجرى حوله التجارب في مختبرات جامعتي أكسفورد وكامبردج.. وإن كانت القوى النفسية كغيرها من المواهب لا تصيب دائمًا ويعتريها النقص والخلل والتوهم والخطأ، إلا أنه في المقابل يوجد داخل أغوار النفس قوى مبدعة وملهمة تمكن الفرد من النجاح المطلق.. وقد تداخل البحث العلمي مع ما يعرف بالقوى النفسية الخارقة وذلك من خلال طريقين:

الأول: والذي سار عليه الباحثون البريطانيون وهو دراسة الوثائق التي سجلت الحالات الخارقة كالمواهب النادرة وقراءة الأفكار، والأشخاص ويطلق على هذه المرحلة مرحلة اكتشاف الحالات وجمع الوثائق.

الثاني: وقد سلكه البروفيسور راين والذي يقوم على التجريب والإحصاء وقد تبنت هذا الطريق بعض الجامعات الغربية.

وقد توصل من خلال هذين الطريقين إلى أنه يوجد لدى الإنسان حواس خارقة.

وقد اتجه الرأي العلمي نحو الاعتراف بحقيقة هذه الحواس فقد أكد البروفيسور ثولي أستاذ علم النفس في جامعة كامبردج على أن هذه الظاهرة حقيقة ثابتة كأي ظاهرة أخرى توصل إليها البحث العلمي.. وإن كان البروفيسور سينل ذهب في اتجاه آخر في تعليل الإحساس الخارق بأنه الحاسة السادسة التي تمكن الإنسان من إدراك أشياء لا يمكن إدراكها بواسطة الحواس الخمس، وقد أفاض في شرح فكرته في كتابه (الحاسة السادسة) معتقداً بأنه يوجد في أسفل المخ نتوء صغير يستقبل الذبذبات والأمواج الأثيرية، وأن هذا النتوء الصنوبري الصغير يعرف (بالحاسة السادسة) يستقبل الذبابات والأمواج الأثيرية ويرى بأن هذا النتوء الذي يمثل الحاسة السادسة يوجد في بعض الحيوانات وأنه بدأ يتضاءل ويفقد وجوده في الإنسان إلا من أفراد قلة، وإن كان يرى بأن الحاسة السادسة في الحيوانات أقوى مما هي عليه في الإنسان.

لكل هذه الحواس الخوارق وما يتصل بها من إلهامات ومواهب وقدرات خاصة تأسس لها جمعية في بريطانيا أطلق عليها جمعية المباحث النفسية وقد دخل في عضويتها مجموعة من علماء النفس والفلاسفة وعلماء النفس الاجتماعي والأنساق الاجتماعية، وكان البروفيسور سد جوك أستاذ علم النفس بجامعة كامبردج أول رئيس انتخب لهذه الجمعية وقد أصدرت جمعية المباحث النفسية مجلة علمية تنشر فيها دراساتها وأبحاثها حول هذه الظاهرة.

وقد لخص البروفيسور سد جوك رئيس جمعية المباحث النفسية الغاية من هذه الجمعية في افتتاحه المجلة قائلًا: "إننا نسمع كثيرًا عن الخوارق التي يقوم بها بعض الأفراد ويرويها لنا شهود ثقات ولكننا نلوي أعناقنا عنها هازئين، إن من الفضيحة حقا أن يشهد العالم المتمدن هذا الجدال القائم بين من يصدق تلك الخوارق وبين من يكذبها، ولو أن عشر هذه الخوارق التي يتناقل الناس أخبارها صحيحة لكانت قيمتها العلمية ذات أهمية لا تقدر، إن الهدف الأول لهذه الجمعية هي البت في أمر هذه الأخبار التي يتناقلها الناس في كل زمان ومكان ووضعها تحت مشرط العلم الذي لا يتطرق إليه الشك، فنحن نريد أن نعلم ولا نريد أن نبرهن على شيء علمناه سابقًا، إن غايتنا هي الحقيقة بغض النظر عما إذا كانت نتيجتها سلبًا أو إيجابًا".

وقد سارت الجمعية على منهجها هذا الذي أعلنه رئيسها الأول وحصلت على اعترافات وشهادات ممن قابلتهم من العرافين والمحتالين والمشعوذين والسحرة والكهان وقامت بدراسة ادعاءاتهم وأساليبهم والطرق التي يلجؤون إليها.

وقد كان لنجاح هذه الجمعية صداه في أنحاء العالم فأسست فروعًا لها في أقطار أخرى كفرنسا وأمريكا وهولندا والدنمارك والنرويج وبولندا وغيرها.

فقد توصلت جمعية المباحث النفسية في بريطانيا إلى أن لدى الإنسان ملكات نفسية خارقة أهمها ثلاث وهي: تناقل الأفكار، ورؤية الأشياء من وراء حاجز، والكشف والإخبار عن بعض الحوادث التي تحدث في المستقبل.

وقد درست جمعية المباحث النفسية في بريطانيا قبل سنوات حالة فقير هندي يمشي على فراش من الجمر كانت درجة حرارته تزيد على الألف (بمقياس فهرنهايت) وقد أعاد المشي عليه مرة ثانية للتأكيد فسجلت هذه التجربة في سجلات الجمعية.. وقد توصلت الجمعية إلى أن هذه الخوارق تدخل في موضوع تأثير الفكر في البدن، وهي في الواقع ناتجة عن سيطرة عقلية معينة على بدن الإنسان، فالفقير الهندي حين يمشي على الجمر إنما هو يعتقد اعتقادًا جازمًا أن هذا الجمر الملتهب لا يؤذيه.. فهذا الاعتقاد استحوذ على ذهنه استحواذًا تامًا بحيث أصبح في شبه غيبوبة عما حوله، فبمجرد شك بسيط يخامر نفسه يؤدي حتمًا إلى هلاكه.

فهذا الاعتقاد الجازم الخالي من كل شك ليس بالأمر الهين، ولا يستطيع أن يحصل عليه أي إنسان، إذ هي عقيدة عميقة لها جذورها القوية في أغوار اللاشعور، ولا يكفي الإنسان فيها أن ينوي أو يقرر؛ إنها قناعة لا شعورية تأتي نتيجة الإيمان القوي والميراث الطويل والانغمار الذي لا يخامره شك أبدا.

يعلل العلماء خوارق الهنود بأنها نوع من التنويم الذاتي؛ فالهندي ينوم نفسه قبل أن يقوم بتلك الخوارق، والهنود يختلفون في الطريقة التي ينومون بها أنفسهم تنويمًا ذاتيًا، فالهنود يروضون أنفسهم رياضيات نفسية معقدة وطويلة الأمد حتى يصلوا أخيرًا إلى مرحلة القدرة على القيام بالخوارق، وعند وصولهم إلى تلك المرحلة النهائية يصبحون كأنهم خرجوا من هذه الدنيا وأخذوا يعيشون في دنيا خاصة بهم وتصبح الخوارق لديهم آنذاك أعمالًا اعتيادية يستطيعون أن يقوموا بها متى شاؤوا.

تقول جمعية المباحث النفسية: إن المواهب الخارقة هي كعيون النفط ومناجم المعادن؛ إذ هي لا تتوفر إلا في أفراد قلائل، ولذا يجب علينا أن نبحث عن هؤلاء الأفراد كما تبحث شركات الاستثمار عن الأماكن التي تكثر فيها عروق المعادن.. أما البروفسور راين فيريد أن يكتشف أغوار النفس البشرية، ليستخرج منها تلك الخوارق.

وقد وجدت تلك الأبحاث النفسية في الولايات المتحدة الأمريكية عاصفة من النقد والنظر لها بشيء من السخرية والاستهجان لتنافيها مع العلم والوعي، وإن كنا ننظر لبعضها كنوع من التنجيم والكهانة التي لا يقرها الإسلام.