من وجهة نظر واشنطن، يبدو خصومها ضعفاء، وهذه هي اللحظة المناسبة لاتخاذ واشنطن مواقف أكثر عدوانية تجاه هؤلاء الخصوم في مختلف أرجاء العالم، من آسيا إلى أوكرانيا إلى إيران.
ويعتبر الخلاف الغريب حول منطاد التجسس الصيني المثال الأحدث على هذا الصعيد. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الصين أصدرت بياناً أعربت فيه عن أسفها على اختراق المنطاد المجال الجوي الأميركي، وذلك في إشارة من بين عدة إشارات إلى رغبة بكين في الحيلولة دون تردي العلاقات بين البلدين.
وفي خطابه الأخير داخل الولايات المتحدة في ديسمبر (كانون الأول)، دعا السفير الصيني السابق في واشنطن، والذي سرعان ما تقلد منصب وزير الخارجية، إلى تعاون يعود بالنفع على الجانبين، بدلاً من المواجهة. وليس من قبيل المصادفة أن نائب رئيس الوزراء الصيني شدد في أثناء مشاركته في دافوس، الشهر الماضي، على ضرورة استمرار العولمة، وترحيب بلاده بالاستثمارات الأجنبية.
وفي تلك الأثناء، تنقل بعض الشركات الصينية أعمالها إلى المكسيك، للحفاظ على قدرتها على الدخول إلى الأسواق الأميركية.
في الواقع، يجب ألا يتحول منطاد التجسس إلى أزمة، فنحن نعيش في عصر التجسس بالأقمار الصناعية والتجسس السيبراني. وبالتأكيد، تتجسس الولايات المتحدة هي الأخرى بدورها على الصين.
وفي تصريحات لصحيفة «واشنطن بوست»، الأسبوع الماضي، ذكر مسؤول عسكري أميركي أن منطاد التجسس ليس بمقدوره سبر أغوار أي أسرار عسكرية مهمة. واعترفت واشنطن بأنه سبق دخول مناطيد تجسس الأجواء الأميركية من قبل، وإن كان المنطاد الأخير أكثر وضوحاً، الأمر الذي حوله إلى قضية سياسية. وبعد محاولة إدارة القضية بهدوء عبر القنوات الدبلوماسية على مدار يومين، ألغت إدارة بايدن الرحلة التي كانت مقررة من جانب وزير الخارجية أنتوني بلينكن في اللحظة الأخيرة، بسبب حالة الغضب التي سادت العاصمة الأميركية.
في المقابل، جاء رد فعل الصينيين، الذين كانوا يتوقعون عقد لقاء بين بلينكن والرئيس الصيني شي، متمثلاً في بيان هادئ، أعلن ببساطة أن إلغاء الزيارة قرار أميركي.
بيد أن الأميركيين أقدموا على ما هو أكثر من مجرد إلغاء الزيارات. ففي أواخر يناير (كانون الثاني)، أقنعت إدارة بايدن اليابان وهولندا بتوجيه شركاتهما لتطبيق القيود الأميركية ذاتها على صادرات تكنولوجيا تصنيع أشباه الموصلات إلى الصين.
والآن، تضغط واشنطن على حكومة كوريا الجنوبية هي الأخرى لتقييد صادرات تكنولوجيا صناعة رقائق الكمبيوتر للصين.
في الوقت ذاته، توصلت إدارة بايدن، الأسبوع الماضي، إلى اتفاق مع الهند لتعزيز التعاون بينهما في مجال التكنولوجيا المتقدمة والأسلحة المتطورة. ويهدف هذا الاتفاق والقيود التجارية سالفة الذكر إلى تمكين أميركا من التفوق على القدرات التكنولوجية الصينية المتقدمة.
وفي وقت متزامن، أعلن وزير الدفاع الأميركي إبرام اتفاق مع الفلبين، بحيث يتمكن الأميركيون من بناء أربع قواعد عسكرية جديدة في جزيرة لوزون شمال البلاد، بالقرب من تايوان.
وتعمد إدارة بايدن، أكثر من إدارة ترمب، إلى استغلال الشبكة التقليدية للتحالفات والشركاء لإقناع؛ وإذا لزم الأمر الضغط على دول أخرى للمساعدة في احتواء الصين. في المقابل، تفتقر الصين إلى قائمة مشابهة من الدول الحليفة.
كذلك، صعدت إدارة بايدن من تدخلها في حرب أوكرانيا، الشهر الماضي. وكان قرار إرسال دبابات، وإقناع ألمانيا بإرسال دبابات، بمثابة خطوة لم تكن أي من عواصم العالم تتوقعها منذ عام مضى.
علاوة على ذلك، تمد إدارة بايدن أوكرانيا بمدافع جديدة يمكنها ضرب أهداف على بعد يزيد بمقدار الضعف على منظومات المدفعية التي سبق أن أمدت بها أوكرانيا. وبالتالي، من المتوقع أن المدفعية الجديدة ستبلي بلاءً أفضل في إصابة أهداف داخل روسيا. والواضح أن واشنطن اليوم لم تعد قلقة للغاية مثلما كانت من قبل إزاء احتمال رد روسيا باستخدام أسلحة نووية.
في الوقت ذاته، وتحت ضغوط من واشنطن، أخطرت الشركة التركية لخدمات المطارات «هافاس»، شركات الطيران الروسية، مؤخراً، بأنها ستتوقف عن إمداد طائراتها بقطع غيار أميركية، بغرض الالتزام بالعقوبات الأميركية.
والمعروف أن تركيا منفذ بالغ الأهمية أمام المسافرين الروس، بسبب العقوبات القائمة داخل المطارات في مختلف أرجاء الغرب. ومثل الصين، عجزت روسيا حتى الآن عن الاستجابة لإجراءات التصعيد الأخيرة في الضغوط الأميركية.
وأخيراً، يبدو أن ثالث أكبر أعداء واشنطن - إيران - يواجه إجراءات تصعيد من حليفة أميركا، (إسرائيل). ولم يسفر الهجوم بطائرات «درون» ضد أصفهان سوى عن خطاب إيراني إلى الأمين العام للأمم المتحدة. ويعد هذا أقل رد فعل دبلوماسي ممكن، ويمكن للفلسطينيين من واقع تجربتهم نصح الإيرانيين بخصوص النتيجة المتوقعة.
وبالمثل، دمر الإسرائيليون الأسبوع الماضي، قافلة عسكرية إيرانية عند البوكمال شرق سوريا، ومن جديد لم تحرك إيران ساكناً. ورغم الضربات الإسرائيلية الأسبوعية، والتي يخترق بعضها السيادة الإيرانية، تتجنب إيران ردود الفعل العسكرية، خاصة عندما ترى أكبر تدريبات عسكرية مشتركة في التاريخ بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
وعلى خلاف واشنطن، تبدو طهران مستعدة للعمل على نحو تدريجي، ومن شأن إحراز تقدم مستمر على صعيد برنامجها للأسلحة النووية أن يزيد احتمالات تعرضها لهجوم عسكري أميركي - إسرائيلي.
والتساؤل هنا: هل يلجأ بايدن للقوة العسكرية الأميركية من أجل فرض سيطرته على العالم؟
الإجابة المختصرة: ليس على غرار بوش الابن، فهو لن يرسل جيشاً إلى داخل إيران أو أوكرانيا. ومع ذلك، يبقى من الواضح أن واشنطن تزداد عدوانية. وأخشى أن تتجاوز واشنطن عن طريق الخطأ خطاً أحمر وتستثير رد فعل غاضباً من عدو ضعيف، لكنه يائس. ونعلم جميعاً من تجربة 2003 في العراق، أن واشنطن تميل أحياناً للمبالغة في تقدير قدراتها.
- آخر تحديث :
التعليقات