منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مرت السياسة الأمريكية بمنعطفات وتغيرات جذرية، شهدت انتقالاً في التحالفات، والمواقف السياسية، وذلك أمر بديهي، كونه يخضع لقانون التحدي والاستجابة، لكن غير المألوف هو الطابع الدراماتيكي، لتلك السياسات، وتعارض بعضها الصارخ مع المبادئ التي يعلن الساسة الأمريكيون أنها الناظم للسياسة الأمريكية كدعم الأنظمة الديمقراطية، ونشر الحرية والانتصار لحقوق الإنسان.
والأبرز بينها هو انتقال السياسة الأمريكية، خلال عقد واحد، من محاربة الأنظمة الدكتاتورية، وتدبير انقلابات للإطاحة بها، والتبشير بالديمقراطية على مستوى العالم، كما حدث أثناء رئاسة جون كنيدي، إلى الدخول في حرب مباشرة، أثناء عهد ليندون في فيتنام ولاوس وكمبوديا، لحماية أنظمة عسكرية تتصف بالفساد والاستبداد، وكانت تلك الحرب امتداداً للحرب الباردة. وقد ساند الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية، فيتنام الشمالية، ذات النهج الشيوعي في تلك الحرب، وقدما لها مختلف أشكال الدعم حتى تمكنت من إلحاق الهزيمة بالقوات الأمريكية، وأسقطت نظام سايغون، الذي قاده الجنرال العسكري جان فان ثيو.
مع نهاية الحرب الكونية الثانية، وأثناء فترة الرئيس هاري ترومان بدأت الحرب الباردة، واستمرت بين مد وجزر، بين المعسكرين الشرقي والغربي. وكان أبرز ملامحها، سباق التسلح بين المعسكرين، وتطور صناعة السلاح النووي بشكل مرعب، وانقسام العالم، بين معسكر اشتراكي، يعتمد سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، ويضم الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، في أوروبا الشرقية، والصين الشعبية، وقد تم ضم هذه الدول باستثناء الصين في حلف وارسو العسكري. ومعسكر آخر رأسمالي، تقوده الولايات المتحدة، ويضم دول أوروبا الغربية، وقد جمعها حلف الناتو، الذي التحقت به دول أخرى، خارج الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
كان التسعير ضروساً، أثناء الحرب الباردة، سياسياً وعقائدياً واقتصادياً وعسكرياً، بمعنى شمولية الحرب بين الغرماء، دون مواجهة عسكرية مباشرة بينهما. وكانت حروب الوكالة، بين الغرماء هي طابع المرحلة الممتدة منذ عام 1945 حتى 1990.
مع سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكية، لم تعد هناك حاجة للولايات المتحدة لتبني حروب الوكالة، فقد باتت قطباً أوحد، من غير منازع بالسياسة الدولية. فكانت حرب الخليج عام 1990 بعد غزو العراق للكويت، هي البداية في السياسة العسكرية الأمريكية الجديدة، بعد سقوط الحرب الباردة. ليتبعها احتلال بنما وأفغانستان والعراق، والتدخل العسكري المباشر في رواندا.
ولم يكن الاتحاد الروسي الفيدرالي، الوليد في وضع يسمح له بالتنافس مع أمريكا. وقبل بدور أقل بكثير، من دور الاتحاد السوفييتي، وانتهى حضوره العسكري بشكل يكاد يكون تاماً في أوروبا الشرقية. واستبدلت لغة التنافس والصراع، بين البلدين، بتعبير الشراكة، في عهود كلينتون وبوش وأوباما وترامب. وبات تركيز أمريكا، منذ نهاية الحرب الباردة على الأصولية الإسلامية، وانتشار ظاهرة الإرهاب.
انتقلت مراكز البحوث الإستراتيجية في أمريكا، سواء منها الرسمية، أو تلك التي تحمل مسميات مستقلة، ومعها مناهج السياسة المقارنة والعلاقات الدولية، في معاهد الدراسات العليا، من نظريات التنمية والتحديث، والصراع وحل الصراع، ونظرية القوة، التي أبدع فيها مستشارون سابقون للأمن القومي، مثل والت روستو، وبريجنسكي وهنري كسنجر، إلى التنظير حول الإرهاب. وكانت بالفعل حرباً صليبية، كما وصفها جورج بوش الإبن. ولأن الأصولية الإسلامية، كانت هي الهدف، فكان من الطبيعي أن يعود للأيديولوجيا ألقها.
في عهد ترامب، انكمشت الصراعات الدولية، إلى حد كبير، عدا مواقف غير واقعية، من قضايا العرب الكبرى، لكن سياساته احتفظت برصانتها تجاه روسيا، وزعيمها بوتين. ولم يتغير واقع الحال، إلا بوصول جو بايدن لسدة الرئاسة.
والمعروف عن بايدن سياساته اليمينية، التي تجعله أقرب إلى الحزب الجمهوري، وبشكل خاص في ما يتعلق ببناء القوة العسكرية الأمريكية. لم تمض سوى فترة قصيرة من وصوله للحكم، حتى تصاعد الصراع بين ورسيا وأوكرانيا، ليصل في نهاية المطاف، وقبل عام من هذا التاريخ، إلى الصدام العسكري المباشر.
اعتمدت سياسة بايدن على توسيع دائرة المنتمين لحلف الناتو، والوقوف بقوة وحزم أمام السياسة الروسية، تجاه أوكرانيا، والعودة مجدداً إلى مناخات الحرب الباردة، من محوري الشرق بقيادة روسيا والصين، وأمريكا وأوروبا الغربية، وحلفائها في اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية.
كيف تم الانتقال من مبدأ الشراكة بين روسيا وأمريكا؟ وكيف تدهورت علاقة أمريكا بالصين الشعبية، وعودة مناخات الحرب الباردة؟ ستكون محور مقالات قادمة إن شاء الله.
التعليقات