من الثوابت العلمية أن الكرةَ الأرضيةَ التي تدور حول نفسها مرةً كل أربع وعشرين ساعة، والتي تدور حول محورها الكوني مرة كل 365 يوماً، يتألف عمقها من حمم نارية سائلة ملتهبة، وقد تعرّف الإنسان على هذه الحمم من انفجارات البراكين. وتطفو على سطح هذه الحمم النارية قشرة من اليابسة، وهي الأرض، أي القارات الخمس التي نعيش عليها. ليست هذه القشرة قطعة واحدة، بل عدة قطع، أو بالأحرى عدة قارات، وهي ليست ثابتة في مواقعها بل متحركة كأي شيء يطفو فوق سطح سائل وفي حالة غليان دائم. عندما تصطدم هذه القطع المتحركة يقع الزلزال، على النحو الذي عرفناه في تركيا وسوريا في السادس من شهر فبراير الماضي.
ويشعر العالَم بهزات أرضية عديدة على مدار السنة، وربما على مدار الشهر. بعض هذه الهزات ضعيف لدرجة أنه لا يلاحظها سوى العلماء الاختصاصيون، وبعضها يبلغ من الشدة والقدرة التدميرية على النحو الذي عرفه العالَم مؤخراً حيث بلغت شدة الهزة الأرضية 7,8، أو 7,5 درجات. وهو أمر يحدث حوالي 15 مرة وفي مواقع مختلفة على مدار العام، ولعل أخطرها تلك التي تقع في ما يعرف بـ«زنار النار» في المحيط الهادئ. فهناك غالباً ما يكون اصطدامُ الصفائح الأرضية قوياً. لكن ما حدث في تركيا وسوريا مؤخراً، كان استثنائياً في قوته التدميرية. فالصفائح المتحركة في هذه المنطقة معروف عنها أنها تتحرك ببطء، لذا فإن اصطدامها نادراً ما يولّد مثل هذه القوة التدميرية.
ومما زاد حجم المأساة الإنسانية أن الاصطدام وقع والناس نياماً!
ولأن العِلم يعرف كل هذه الوقائع العلمية عن تكوّن القارات وحركتها واصطداماتها الاهتزازية، وعن فوران الحمم النارية جراء هذه الاصطدامات.. فقد وضع العلماءُ والمهندسون مواصفاتٍ محددةً للبناء من شأنها أن تخفف حجمَ الخسائر البشرية والمادية المترتبة على الهزات الأرضية. وهو ما حققت اليابان الواقعة في مرمى الاهتزازات تقدماً في إنجازه.
ويعتقد العلماءُ أن الحممَ البركانيةَ التي تغلي وتتدفق في باطن الأرض، تجرف معها قطعاً صخرية، وغالباً ما تؤدي هذه القطع الصخرية في تجمعّها إلى سدّ الطريق أمام تدفق الحمم، مما يؤدي إلى الزلازل. وتتميز طبيعة الصفيحة التي يقوم عليها الشرق الأوسط، بما في ذلك منطقة الأناضول في تركيا، بالتعقيد، من حيث أنها تقوم فوق مجموعة من الصفائح الصغيرة المتداخلة. ويعتقد العلماء أنه قبل مائة مليون عام كانت هذه المنطقة جزءاً من الشاطئ الجنوبي لبحر كان يُعرف باسم بحر «تيثيس»، والذي كان يفصل بين قارة أفريقيا وقارتي أوروبا وآسيا. وعندما أقفل هذا الممر المائي، خلّف وراءه البحار المعروفة اليوم: الأورال والأسود وقزوين والمتوسط. ومع الوقت تحركت صفيحة الأناضول شمالاً وأصبحت محاصرةً بين الصفيحة العربية في الجنوب الشرقي، والتي تتحرك شمالاً هي كذلك، والصفيحة الأوروبية الآسيوية التي تتحرك جنوباً. وما تزال الصفيحتان تتحركان في هذين الاتجاهين حتى اليوم، وبينهما الأناضول، مما يفسّر علمياً وجود خط الزلازل في هذه المنطقة من تركيا حالياً.
في عام 1999 عرفت إسطنبول هزةً أرضيةً مدمرةً. ويومها تعلّم الأتراكُ الدرسَ. فالبلاد كلها تقع في خط الزلازل، ولا منجى ولا نجاة من نتائج ذلك سوى اعتماد هندسة للمباني وللطرقات والجسور، تقاوم –ولو جزئياً- المضاعفاتِ المترتبةَ على الاهتزازات الأرضية في المنطقة.
ومن هنا فالأمر المهم ليس وقوع زلازل في تركيا، فذلك أمر متوقع علمياً، ولكن في عدم الالتزام بمواصفات البناء القابلة للصمود في وجه الزلازل أو امتصاص جزء من قوتها التدميرية. لذا عمدت الحكومة التركية إلى اعتقال مجموعة من تجار البناء الذين لم يتقيدوا باحترام المعايير الهندسية المقررة للبناء في مناطق الخط الزلزالي، ويقدر عددهم بالآلاف.
وليست منطقة الأناضول الوحيدة من نوعها في العالَم، بل هناك مناطق عديدة مماثلة، خاصة في الشمال الغربي من الولايات المتحدة (منطقة كاسكاديا)، وفي الجنوب الغربي من كندا.. لكن مرّت عدة قرون حتى الآن دون أن تشهد زلزالاً مدمراً بحجم ما شهدته تركيا.
يعيش الإنسان فوق أرض تغلي من تحته بحمم نارية، وتتساقط عليه شهب نارية من السماء مدمرة للحياة (ربما بسببها انقراض الديناصورات)، وبين ما هو متفجر من باطن الأرض، وما هو متساقط من كواكب الفضاء، يبقى الإيمان بأن فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ).