يبدو أن صيف هذا العام سيحمل الكثير من المفاجآت، فواشنطن أصبحت أكثر خشونة في تعاملها مع موسكو، وهي أقرب إلى نمر جريح، بعيون زائغة وتصريحات متناقضة ودماء الحسرة والندم تخرج من بين أنيابها وضروسها إثر الصعود الصيني السريع، وربما تتهور أكثر وتكون أكثر اندفاعاً وتقلباً في عالم أصبح بلا خطوط حمراء.

بكين التي لم تقع في فخ تايوان كما أرادت لها واشنطن، استدارت نحو الدبلوماسية السرية الهادئة، وبدلاً من نثر البارود كما يفعل الغرب، استطاعت خلال أشهر فقط بناء منظومة سلام في الشرق الأوسط بين «الرياض وطهران»، وهي على وشك تنفيذ اتفاق آخر بين موسكو وكييف.


واشنطن المتوجسة من التحركات الصينية، سارعت باستباق نجاح الوساطة الصينية بين روسيا وأوكرانيا واستصدرت قراراً من محكمة الجنايات الدولية ضد خصمها اللدود الرئيس بوتين بحجة انتهاك حقوق الأطفال الأوكرانيين، لعلها تدفعه لرفض الوساطة الصينية التي لو نجحت بجانب الاتفاق مع السعودية وإيران فستظهر الصين كدولة عظمى تتبنى وتنشر السلام في العالم، بينما واشنطن مجرد عاصمة لتنفيذ وإدارة الحروب.

المفارقة أن منتهكي حقوق الأطفال يعيشون في نيويورك وليسوا في موسكو كما تدعي واشنطن وحلفاؤها، فقد حملت أخبار الصحف الأمريكية قبل أيام فضيحة مخجلة لسياسيين وقانونيين أمريكيين حضروا حفلاً شاذاً.

لطالما تخيلت واشنطن أن خيوط الصراع في العالم بين أصابعها تحركها كيفما شاءت من الكوريتين شرقاً إلى الهند وباكستان، مروراً بالسعوديين والإيرانيين، وليس انتهاء بالقضية الفلسطينية ولبنان وسوريا والمغرب العربي، وصراعات وحروب دول جنوب الصحراء، كلها قنابل سياسية وأمنية تنتهي خيوط لعبتها في أروقة وزارة الخارجية الأمريكية وأجهزة الاستخبارات.

بلا شك إن التبدلات السريعة التي يشهدها العالم، قد تزيد من توتر «الواشنطنيون» بدلاً من تنفيس احتقانهم، فالوضع الاقتصادي الداخلي يضغط عليهم جداً، وتغيير السياسات على مدى العقدين الماضيين دون نتائج فاعلة أدى إلى خسائر متتالية، بدءاً من تخليها عن حليفها محمد حسني مبارك في مصر والارتماء في أحضان تنظيم إرهابي ليس له قدرة على إدارة «عشة حمام»، وخسارة سوريا بيد الروس، والانسحاب المتسرع من أفغانستان وترك عشرات الآلاف ممن ارتبطوا بواشنطن وكأنهم مخلفات بشرية، فضلاً عن تبني سياسة متغيرة المزاج مع المملكة العربية السعودية، والإخفاق في تلبية متطلبات شراكة دامت لأكثر من ثمانين عاماً.

هل هذا ما تريده النخب السياسية في أمريكا لبلادها، لقد استبدل سياسيو واشنطن رموزهم الثقافية التي غزت العالم ذات يوم وحولته إلى أمريكي الهوى «الكوكاكولا، والماكدونالدز، ونجوم هوليود، وسيارات الكاديلاك» إلى إعلانات لتشريع الجنس، وإعلان الحروب على كل من يرفض تلك الثقافة الشاذة.

أمريكا تريد استعادة مكانتها التي فرطت بها، لكن تلك الأمنية لا بد أن يقابلها أن تعود أمريكا عظيمة كما كانت، فالكبير دائماً ما يتعالى عن الصغائر ولا يصبح رهينة للمتحولين والشاذين.

الأمريكان متورطون في أوكرانيا، ويعضون أصابع الندم في الشرق الأوسط الذي أضاعوه بعدما أعلنوا عن مغادرته من طرف واحد إثر مجيء أوباما، ثم أعلنوا عن تراجع إعلامي فقط العام الفائت، الرياض المعنية الأولى بذلك التخلي وجدت نفسها تشهر سيفها السياسي والأمني في وجه تحديات ضخمة ومؤامرات وتحالفات وجودية قادتها واشنطن نفسها ضد الرياض، لتجيء تحركاتها واستدارتها السياسية مفاجئة وغير مسبوقة، لكن نتائجها تثبت كل يوم أن الحكمة والدهاء يقيمان في الرياض.

هل هذا الألم والتخبط الأمريكي يعني مزيداً من المخاطر على دول الشرق الأوسط؟!

الجواب نجده في تفاصيل القرار الأمريكي ضد بوتين، قرار يدل على ردة فعل متعجلة لا متأنية، قد يتبعها كثير من القرارات الطائشة في مناطق ودول أخرى.

مطبخ القرار الأمريكي اليوم، هو في نهاية الأمر إما يسار متطرف يرون العالم بعيون الشذوذ ويقيسون التحالفات من خلال قبول الدول من عدمه لمجتمع الألوان، أو كوادر ذات أصول شرق أوسطية لا تراعي المصالح الأمريكية، بل أجندات وأحقاد تجاه دول مثل السعودية ومصر، فهل تتدارك واشنطن ما أضاعته وتعيد بناء تحالفاتها مع شركائها التقليديين في القاهرة والرياض بدلاً من الهروب للأمام؟