«لو لم تتقدم الصين باقتراح عقد مؤتمر لتهدئة التوتر بين إيران والسعودية لتقدمت به دولة من اثنتين: الولايات المتحدة ومصر».

سمعت، خلال الأسبوعين الماضيين، العديد من التعليقات والآراء في حملة رأي حول هذا الموضوع تستحق، في كثافتها وتنوعها، صفة «غير المسبوقة». أتحدث هنا عن الرأي في موضوع انعقاد اجتماع في بكين يضم مسؤولين من ثلاث دول هي: الصين وإيران والمملكة السعودية، لمناقشة سبل تخفيف حدة التوتر في العلاقات بين الأخيرتين.
أظن أنني على امتداد سنوات لم أسمع تنوعاً في الآراء والتعليقات حول موضوع واحد كالتنوع الذي سمعناه، أو قرأناه حول هذا الموضوع.

بالنسبة إلى الصين أستطيع أن أتفهم قدر الغرابة في اقتراحها هذا، بالرجوع إلى إصرار حكامها عبر أربعة عقود أو أكثر، وأقصد بالحكام قادة الحزب الشيوعي الصيني، على التمسك بتوصية زعيمهم الملهم، دينغ شياو بينغ. قضت التوصية بضرورة التمهل، وعدم القفز فوق المراحل في رحلة صعود الصين نحو القمة، إيماناً منه، ومن أكثر خلفائه ومن قواعد الحزب في شتى أنحاء الصين، بضرورة الاستعداد الجيد لمهام القطبية. وفجأة نرى الرئيس شي جين بينغ، ينتهز فرصة اجتماع ممثلي قواعد الحزب فيطلق مبادرة التوسط بين روسيا من ناحية، وأوكرانيا وحلفائها من ناحية أخرى. وما هي إلا أيام معدودة ويلحق به اقتراح آخر يعرض التوسط بين إيران والمملكة السعودية. مهمتان شديدتا التعقيد، وترتّبان مسؤوليات ضخمة على الوسيط في حالة النجاح، كما في حالة الفشل.

هناك أكثر من وجه شبه بين الوساطتين. ففي كلتيهما لا يوجد تاريخ يكشف عن اهتمام وثيق للصين بطبيعة وخلفية النزاع. وفي كلتيهما تتخذ الصين موقف التأييد، أو التعاطف مع أحد طرفي النزاع، وفي كلتيهما تربط الصين بالطرف الآخر في النزاع مصالح ليست بسيطة، أو هيّنة. الصين تتعاطف مع روسيا ولها مصالح واسعة مع حلفاء أوكرانيا، وتتعاطف مع إيران، ولها مصالح ليست بسيطة ولا هينة مع السعودية.

الاقتباس الوارد في مقدمة مقالي بدا كما سمعته غريباً، ولكنه لم يخل من منطق يبرره. ففي ما يتعلق باحتمال أن تكون الولايات المتحدة القطب المرشح للتدخل بوساطة، أو بغيرها، بين المملكة وإيران نعرف، أو نشعر على الأقل، بأن واشنطن في الآونة الأخيرة بدت لنا، ولإسرائيل أيضاً، كما لو كانت غيّرت نيتها وبعض موقفها من إيران.

وأكثرنا على علم بحقيقة وجوهر الذهنية الليكودية المتطرفة تجاه إيران، ولا نجهل حقيقة وجوهر الجناح الأشد تطرفاً في حكومة نتنياهو. لكننا نقف شهوداً في الوقت نفسه أمام ثلاثة تطورات استجدت في الأيام، أو الأسابيع الأخيرة. أول هذه التطورات الحملة المكثفة المدبرة بعناية في الولايات المتحدة لحشد الرأي ضد سياسات التطرف، ونوايا نتنياهو المهددة للنظام الديمقراطي في إسرائيل. التطور الثاني ويتعلق بمواقف واشنطن من حملة الشحن الإسرائيلية ضد إيران، وسياسات أمريكا التي صارت تأخذ شكل مهادنة لإيران.. التطور الثالث وتكشف عنه المصالح المتزايدة للعرب، بخاصة المملكة السعودية في الصين.
يبقى لنا في تعليقنا على الاقتباس، التلميح أو الإشارة إلى دور لمصر كان متوقعاً، أو منتظراً، أو ممكناً في مهمة الوساطة بين إيران والمملكة السعودية، والخليج بعامة، دور تتحمل مسؤولية القيام به الدبلوماسية المصرية. ونلفت النظر بداية، إلى أن المقصود في هذه السطور بالدبلوماسية المصرية ليس جهاز وزارة الخارجية فقط، ولكن أيضاً كل الأجهزة والمؤسسات المصرية العاملة بصفة دائمة، أو متقطعة في شؤون خارجية، وبشكل معلن، أو من وراء أستار وفي تكتم.

واجب علينا، وهو حق للدبلوماسية المصرية، أن نعترف لها بما حققته خلال قرن كامل من إنجازات، وألا نغفل فترات ارتخاء استجابت فيها لصناع قرار في السياسة الخارجية المصرية فضلوا لمصر وضع الكمون. وأعترف بأنه من حسن حظ الدبلوماسية المصرية أن ولدت وسط أحداث كبيرة، ولمهمة عظمى وهي السعي لتحقيق درجة أعلى من الاستقلال عن الاستعمار البريطاني، فاهتمت لعقود ثلاثة بمفاوضات جرت في مصر، وفي مواقع دولية عدة. وأتيح لهذه الدبلوماسية لوجودها في أكثر من مؤتمر دولي ولعلاقات أقامتها مع حزب المؤتمر الهندي وبحركات وطنية أخرى، أن تكون بين الدول المؤسسة للأمم المتحدة، فينشأ بين دبلوماسييها فريق متأهل للعمل الدولي والإقليمي، وتحملت النصيب الأكبر من مسؤولية إنشاء الجامعة العربية ووضع ميثاقها.

تاريخ طويل لن تفيه حقه سطور قليلة. ولكني حين أتأمل في بعض أحداثه أتأكد من أن الدبلوماسية المصرية عوملت في مراحل بإهمال، وفي مراحل فرض عليها الكمون والسكون، وفي مراحل حلّت محلها اجتهادات لم تفِ بالغرض. وأحب دائماً أن أضرب المثل بتاريخ الدبلوماسية المصرية في إفريقيا التي حققت في وقت من الأوقات إنجازاً لم تحقق مثله دولة أخرى في العالم النامي، قبل أن يفرض عليها، وأقصد على الدبلوماسية، الانحسار. ومع الانحسار، أو بسببه فقدنا، للأسف، كثيراً مما كنا أنجزناه في مرحلة سابقة. وأعلم من أصدقاء أن لدى الكثيرين في العمل الدبلوماسي الاستعداد لمرحلة طويلة قادمة تستطيع فيها الدبلوماسية المصرية أن تبادر مستأنفة نشاطها الإيجابي والمؤثر.

وليس سراً، ولا خافياً أن كثيرين من صناع الرأي المصري كانوا على امتداد فترة التشظي الشرق أوسطي، محبذين لتبادل الوفود بين مصر وإيران، وأن عدداً غير قليل من الباحثين، وأعرف بعضاً من المتميزين منهم، ظلّ ضاغطاً من أجل تبادل التفاهم مع المجتمع الأكاديمي الإيراني لمصلحة الشعبين، والاستقرار في الوطن العربي، وللأسف لم يجدوا من يحقق لهم هذه الرغبة. لذلك كنت، وما زلت واثقاً من أن إعادة ترتيب الأسبقيات في أجندة السياسة الخارجية المصرية سوف يعيد للدبلوماسية بعض أدوارها المشهود بها.