ما زالت الولايات المتحدة ودول الناتو تسعى لاختبار الرئيس بوتين، ومحاولة محاصرته سياسياً واستراتيجياً. الواقع يشير إلى أن روسيا كدولة تتماسك في مواجهة ما يجري وبرغم المناكفات التي توجهها الولايات المتحدة لروسيا، والتي تركز على دفعها إلى حافة الهاوية والانتقال من المواجهة غير المباشرة، والمعلنة إلى مساحات أخرى من التصعيد السياسي والعسكري.
وثمة توقعات بعدم التوصل لحل حقيقي في الفترة الراهنة في ظل غياب الوسيط الفعلي، وعدم وجود تحركات دولية حقيقية للتعامل مع ما يجري، وفي ظل غياب الإرادة السياسية التي يمكن أن يعمل عليها الطرفان، مع استمرار التصعيد غير المباشر مع روسيا.
وهناك رهان على أن الانشغال الأميركي داخلياً بإجراء الانتخابات الرئاسية سيقلل من انغماس واشنطن وسيقلل من تركيزها تجاه الساحة الأوكرانية الروسية.
وفي غضون ذلك توجد تحذيرات أطلقها قادة المؤسسة العسكرية الروسية من أن دول الناتو قد تقدم على الخيارات البديلة، واستمرار الحشود العسكرية، وتكريس استراتيجية التصعيد من خلال المناورات، والتدريبات العسكرية المكثفة التي قد تؤدي إلى صدامات في المدى المنظور في حال استمرار المشهد الراهن، وانفتاحه على سيناريوهات متعددة بما في ذلك العمل في مسارح عمليات مجاورة، أو امتداد المواجهات لأراضي الناتو، وهو ما يتحسب له الجانب الأميركي، ويتخوف من تبعاته بالفعل في الفترة المقبلة، وقد يدفع لمزيد من المواجهات بعد واقعة المُسيّرة الأميركية.
الرئيس بوتين نجح في كسر طوق الحصار الراهن ومد بمقاربته السياسية الحالية تجاه أطراف الصراع، وليس أوكرانيا فقط وفي اتجاهات مختلفة، وهو ما يزعج بالفعل الجانب الأميركي خاصة في ظل صراعات كبرى تجري في الكونجرس، ولا أحد يريد حسمها لاعتبارات متعلقة بالمعركة الانتخابية المقبلة، وسعي الحزبين لترتيب الأولويات مع التركيز على ملفات الداخل كونها بؤرة لركيز المواطن الأميركي.

في الداخل الأميركي يظل ملف دعم العملية العسكرية في أوكرانيا قائماً في إطار المخصصات المقرة، والتي تم اعتمادها منذ الكونجرس الماضي، ويحاول الكونجرس الحالي إعادة تصويب مساراتها مع مقترح مهم بضرورة إدخال دول الناتو بصورة أكبر، والمشهد المحتمل خلال الفترة المقبلة سيرتبط بسلوك كل طرف خاصة الجانب الروسي الممسك بالكثير من الأوراق السياسية والاستراتيجية، والتي قد تزعج دول الناتو وواشنطن إذا تعمدت الدخول في المواجهة لآخر المطاف في ظل دعمها الراهن للقدرات الأوكرانية، والتي جعلها تصمد حتى الآن برغم التسليم استراتيجياً بأن أوكرانيا باتت مقسمة بالفعل، وأن مرحلة ترتيب الأولويات الأمنية عندما تحين ساعة التفاوض ستكون صعبة ومعقدة للغاية، وهو ما سيحمل الجانب الأميركي أيضاً مزيداً من التبعات.
في كل الأحوال ما زال الوقت متسعاً لمزيد من الانعكاسات المتعلقة بارتدادات الأزمة وتداعياتها، ولكن من المؤكد أن دولة واحدة هي الصين القادرة بالفعل على الدخول في حلبة ما يجري، بلعب دور الوسيط المراقب والقادر على فرض التهدئة، والوصول إلى تفاهمات أمنية تضم الجميع، ولن تقتصر على الجانبين الروسي والأوكراني فقط، ومن ثم فإن ما يجري من تطورات مفصلية ستكون منضبطة، ومحكومة بتوجهات راسخة لكل طرف، وأن طالت أمد المواجهة الراهنة لبعض الوقت.
* أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية